عائداً إلى أرضي “في أثر الغابرين أهذي”!
لم يكن ذلك الطفل الذي وجد كتاب “طارق بن زياد” في الكافيتيريا الموجودة بجانب المدرسة ليتردد لحظة واحدة في دفع خمسة ريالات هي مصروفه الأسبوعي الكامل مقابل هذا الكتاب وترك ساندوتش الفلافل خلفه محاولاً التسامي على ألم بطنه الذي يتضور جوعاً!.
شدّه غلاف الكتاب والرسمة المُتخيلة التي زينت الغلاف لطارق بن زياد ببشرةٍ سمراء وخوذة خضراء وترس أسود ولباسٍ قان!. كان ذلك الكتاب ضمن إصدار “سلسلة الناجحون” لأحدى دور النشر اللبنانية والموجهة للأطفال. قام بشراء كُتب أُخرى من ضمن السلسلة مثل خالد بن الوليد والأسكندر المقدوني والمهاتما غاندي ونابليون بونابرت وشجرة الدر والملكة زنوبيا وغيرهم بمصروفه الشخصي على مدار بقية الفصل الدراسي، ولكن لم تفعل كل تلك الكتب الجمية واللذيذة فعل كتاب طارق بن زياد في قلبه!. سيطر عليه ذلك الكتاب بطريقة عجيبة إلى درجة أنه أصبح همه الوحيد عندما يعود من المدرسة وفي ظهيرة أيام الشتاء أن يُعيد قراءة طارق بن زياد مراتٍ ومرات في ركن فناء المنزل والخاص بمجلس الرجال المكشوف حيث يوجد “وجار” القهوة الذي يتم فيه صنع القهوة على نار الخطب بتلك الطريقة اللذيذة!.
يكوّر جسده ويتكئ على جانبه الأيسر ويمسك الكتاب بيده اليمنى بينما يعبث بأصابعه اليسرى بشعره فيشده حيناً برفق ويلف خصلاته الطويلة على أصابعه حيناً آخر!. يغرق مع طارق مرة ومرة ومرة، يشاركه عبور المضيق الذي تشرّف بحمل اسمه، يضع يده على قلبه وطارق يأمر جنده بحرق السفن قائلا:” العدو من أمامكم والبحر من خلفكم”!. يتعجب من هذه الروح الخلّاقة المجاهدة حينما قررت المجازفة بكل شيء مقابل نصرة ما تؤمن به، يا تُرى كم نحتاج مثلها؟!.
“العدو من أمامكم والبحر من خلفكم”، فلسفة جميلة، إذن هما طريقان لا ثالث لهما والاختيار حتمي ففي أحداهما موتٍ حتمي وفي الآخر موتٍ منتظر!.
سار طارق بالجيش وفي كل مرة أقرأه كنتُ أسير معه ويدي اليسرى تمارس عبثها في شعَري. كنت أسترجع وصف والدي للمعارك التي خاضتها القبيلة قديماً ووصفه “السينمائي” لأحداثها وماذا يفعل فرسانها أثناء المعركة فتتلبسني أرواحهم وأشعر بأنني قد أصبحت من ضمن السبعة ألاف مقاتل في جيش طارق وأنا على فرسي “أحدو” معه بـ:
“يا طارق تكفى يالعقيد
حنا جلبنا أعمارنا
“لوذريق” لا بدّه يهيد
ذاق الطنا من كبارنا
قلّ له جينا من بعيد
و”مجريط” صارت دارنا”
يلتقي طارق في معركة “وادي لكة” بمقاتليه قليلي العدد، كبار الهمة مع “لوذريق” ومعه ما لا يُحصى من جُند “القوط”، تنتهي المعركة بانتصار مشرّف لطارق ومن معه. ينتهي القتال وينتصر الحق والمبدأ على الهُلام وما يّمثلّه!.
وتأخذني نشوة النصر وانا أشاهد هذا الفتح العظيم فـ”أحدو” مرة أخرى وأنا أنظر لمصارع الهُلام:
“يا طارق سيفك من سما
وسيف العدو حفنة تراب
حنا كما حرٍ هما
في مخلبه صاد الخرِاب”
ينتصر طارق في كل معاركه التي خاضها وأنا برفقته وتصبح الأندلس أرضاً عربية إسلامية. يذهب طارق إلى الـ لامكان وأبقى متكئاً على جانبي الأيسر في الفناء الخارجي للمنزل وسبابتي اليسرى لا تزال تعبث بخصلات شعري وهي تتسائل:”أين طارق؟!”.
ويسقط بي الكثير والمثير والغزير والهدير من الكلام ما بين بين!. أسكت وقد مررت بحياة ومرّت بي حيوات، أسكت لبرهة وما أطولها من زمن ومن ثم أعاود البوح!.
مرت بي حياة ومرت بي الأندلس أيضاً!. كنت أقرأ كل ما يمر بي عنها، وفي سنواتي الجامعية قمت بتسجيل مادة “تاريخ الأندلس” كمادة من المواد الحرة والمعمول بها في نظام جامعة الملك سعود في ذلك الوقت. كنتُ مثار أستغراب الكثير وسخرية البعض الآخر، الكل كان مستغرباً لتسجيلي هذه المادة لأنها مادة تخصص وصعبة جداً من جهة ولأن المتعارف عليه هو أن الطالب يختار المواد الحرة السهلة لكي يرفع معدله من جهة أخرى!.
في أول محاضرة مع دكتور المادة الجميل ابن الطائف د/ عبدالغفور الروزي كنتُ مثار الاستغراب من الكل وأولهم أستاذ المادة، فأنا وبمجرد دخولي وأنا أحمل “البالطو” الأبيض الذي لفت نظر الجميع مما دعا الدكتور الروزي لسؤالي عن سبب حضوري معتقدا بأنني ربما أخطأت في عنوان قاعة المحاضرة، فأخبرته بالحقيقة. تبسّم وهو يهز رأسه قائلاً:
“ترى المادة صعبة”!. أومأت برأسي وأنا ابتسم له ابتسامة كانت تعنيني أكثر من غيري!.
عاد بي ذلك “الطفل” الحالم المشاغب مرة أخرى مع الدكتور الروزي ولكن بهيئة جديدة، أصبح يتكئ على يده اليمنى وأصابعها تلعب في عارضه القصير وهو يغرق في صوت الدكتور ويُبحر في كلامه ويذهب ليرى عبدالرحمن الداخل والأوسط والناصر والربض وقرطبة وطليطلة وأشبيلية وغرناطة والزلاقة والعقاب وبلاط الشهداء والمعتمد بن عباد والمنصور بن أبي عامر ويوسف بن تاشفين والموحدين طوال فصلٍ كامل من المتعة الجميلة مقسمة على ثلاث جرعات أسبوعية، لكنها انتهت وكأنها لم تبدأ!.
ومرت بي حياة ومررت بحيوات والأندلس لازالت تستوطنني أنا البدوي الشمالي الغائب عن كل شيء إلا عن ذكرياتي وأحلامي!.
لا أتذكر بأنني قد تحدثت كثيراً مع أحدهم، أي أحدهم، عن الأندلس بحديثٍ طويلٍ أو حتى مقتضب ولا أدري لماذا وإن كنتُ أخمّن بأن خوفي من خروج الطفل من مخبئه هو ما يجعلني أفعل هذا!. خلال سني عمري اللاحقة سيطرت على مشاعري غرناطة وقصرها الأحمر فكنت أمشي في شوارعها في آخر الليل على غير هدى، أعبر حي البيازين، تختلط أصوات الحرفيين وأهل السوق فأشم روائح التراث العظيم وما ألبث إلا قليلاً فأعبر النهر الصغير إلى جنة العريف فأُريح نفسي من عناء رحلتي وتغمرني روائح الزهور الجميلة وبعدها أنطلق فأدخل قصر الحمراء قبلة الدنيا وما فيها!.
قبل فترة قررت السفر للأندلس والمغرب، أوووه، أقصد أسبانيا كأول دولة غير عربية أقوم بزيارتها. كنت انتظر الوقت المناسب الذي أتى على ما يريد وعلى ما أُريد أنا أيضاً!. أقلعت الطائرة وعبرت فوق جبل طارق، ندت من شفتي تنهيدة حرّى ولا أدري لمه!.
كان الوقت صباح جمعة حيث الهدوء والسكينة، عبرت بي الطائرة تلك المسافة الطويلة وأنا عيني تدلى للأسفل حيث الأرض تحتي تتشكل فقط من مشهدين، مساحات خضراء وأنهار لا متناهية العدد!.
عندها عذرتُ أجدادي عندما أسموها “الفردوس المفقود”!.
……………..