أول يوم دراسي… ووحدي أعود!.
كان ذلك من زمن لا أتذكره وإن كنت لا زلت أعيشه!. كنا نسكن في مدينة طريف، طريف التي كانت أحد مدن الحداثة في الوطن ذلك الوقت قبل أن تدخل غيبوبتها الطويلة. حارتنا التي كنا نعيش بها كانت تحمل اسم “حارة الرولة”، وهذا يعني أن غالبية أهلها من نفس القبيلة. ولكن كان هناك ما يميزنا عن بقية أهل الحارة فقد كنا نعيش في بيت من الشعَر، نعم بيت من الشعَر ولكنه كان كأنه من الشِعر لرقته وحنوّه، يطلق عليه مسمى “مثولث”، بينما بقية بيوت الحارة مبنية من الطين والبلك.
كان أبي رحمه الله يعمل جندياً في حرس الحدود ومقر عمله في المراكز الحدودية في صحراء الشمال المترامية ولذلك كان دائم الغياب وكنت في صغري لا أراه إلا لماماً. أتت المدرسة ولا أدري كيف أتت، فقد كنت مشغولاً عنها بملذات حياتي البسيطة، ولكنها أتت!.
قيل لي بأن أتجهز للذهاب مع شقيقّي الأكبر مني سناً للمدرسة. في الصباح استيقظنا كعادتنا، فنحن في ذلك الزمن الآفل نستيقظ عندما تبادر الشمس بإلقاء تحيتها الصباحية المعتادة، ولكن الوضع بالنسبة لي أختلف، فقد كنت في السنوات السابقة أودع أخواني وأتابعهم ببصري إلى أن تسرقهم مني “تعاريج” الطريق!. أختلف الأمر اليوم فقد كان لابد لي أن أشاركهم تلك “التعاريج” التي لا أعرفها وأكتشف بنفسي أين ستؤدي بي في النهاية.
في الصباح جهزتني والدتي رحمها الله بأفطار مكوّن من كوب حليب بالزنجبيل الحارق لـ اللسان وبعض الكعك، ولأن الجو كان بارداً، وطريف مدينة البرد والنسيان، فقد قامت والدتي بألباسي شماغ وربطه من تحت الذقن لكي لا أتخلص منه فهي تظن، وكل ظنها رحمة، أن ذلك الشماغ سيقيني لسعات البرد التي يغريها سبتمبر بالحضور. أمسكتني بقوة وهي توصيني:
“يا وليدي خلّك رجل، ترى الرجل ما يشكي ولا يبكي”. كانت تعيد وصاياها على مسامعي وأنا أغادرها بأن أكون “رجلاً، عاقلاً، مؤدباً، مطيعاً”، أي والله كانت هذه وصاياها الحزينة وليتها لم تفعل!!.
لم يكن معي سوى حقيبة بلاستيكية بداخلها مسّاحة وبراية وقلم ومسطرة لا غير. ذهبت مع أخوتي وكأن الطير قد سقط على رأسي وأنشغل بألتقاط بذور الطمأنينة التي نثرتها أمي فيه حبة، حبة ليجعله فارغاً كفؤاد أم موسى!.
خرجنا للطريق وأنا ألتفت لأمي، كنت أمشى عشر خطوات ومن ثم ألتفت لأمي حيث كانت تقف بجانب البيت وهي تُمسك بالـ”طنب” لـ”مِقْدم” بيت الشعر. عندما دلفت إلى “تعاريج” الطريق فقدت عيون أمي التي تمنحني الأمان وبدا لي كل شيء غريباً، غريباً إلى درجة أن خطواتي بدأت تتقارب بالرغم مني إلى أصبحت المسافة بين وبين أشقائي هائلة جداً كما كان يُخيّل إلي وقتها بينما لا تصل في الحقيقة إلى أكثر من عشرين متراً.
دخلنا ساحة المدرسة، وهي مدرسة ابن سينا الإبتدائية، وذُهلت لمساحتها الكبيرة، سرنا قليلاً وعلى ما يبدو فأننا كنا متأخرين بحيث لم نصادف الطابور الصباحي ولذلك قادني شقيقي الأكبر مباشرة للفصل وأدخلني فيه وغادر بدون أن ينبس بكلمة واحدة!.
أجلت بصري بالمكان، كانت الوجوه غريبة وجديدة وصادمة، وقفت عند باب الفصل وأمامي مباشرة كان هناك رجل ضخم الجثة عرفت فيما بعد أنه مربي الفصل وهو مدرس فلسطيني يجلس على طاولة كبيرة وخلفه شيء أخضر كبير ملتصق بالجدار وبداخله بعض الأشياء البيضاء التي لا أعرف اسمها ولا ماذا تعني!. لاحقاً عرفت بأن ذلك الشيء الأخضر هو “صبّورة” كما كنا ننطقها وأن تلك الأشياء البيضاء هي “طباشير”.
كان الفصل ممتلئاً بالطلاب باستثناء مقعد واحد فارغ ولعله كان مخصصاً لي أنا الذي لم يكن يعرف شيئاً. أشار لي المدرس أن أذهب إليه فذهبت وجلست كما أمرني.
عندما دخلت من باب الفصل كانت “الصبورة” على يميني والمدرس أمامي في الجهة الأخرى والطلاب على يساري. كان مقعدي بجانب الجدار الذي بداخله الباب. دلفت من الباب واتجهت يساراً وتجاوزت الطالب الأول فالثاني والثالث وجلست في المقعد الرابع وأعطيت ظهري للطالب الذي يقبع في المقعد الخامس والأخير.
حسناً هذا هو الكرسي الصغير وهذه هي “الماصّة” التي كانوا يحدثوني عنها. تفحصتهن جيداً ووضعت حقيبتي حيث وجهني شقيقي.
كان الهرج والمرج سائداً في الفصل والطلاب يتحدثون ويضحكون مع بعضهم وأنا أتفحص وجوههم والخوف يسكنني والوصايا تتكرر في رأسي كأسطوانة مشروخة!. لم أشارك الطلبة فوضاهم اللذيذة بل فتحت حقيبتي وأخرجت منها البراية والمساحة والقلم والمسطرة وبدأت ألعب بهما لوحدي على الطاولة. كنت الطالب الوحيد الذي يلاعب “نفسه”. مر وقت لا أعلمه وأنفصلت عن الجميع ودخلت في عالمي الخاص ولم يخرجني من عالمي الجميل إلا صوت المدرس صارخاً:
“أنت يا ولد، تعااااال”
ألتفت إلى المدرس فإذا به يشير إلى فوقفت وأنا أرتجف وقلت له:”أأأن ن ن نااااا”، فهز رأسه بالإيجاب، عندها لم يكن هناك بُد أن أذهب إليه. وقفت عنده وأنا أرتجف، فقال لي بغضب: “وليه تشاغب يا ولددددد”؟
وجمت في البدء، وبعدها ألتفت إلى بقية الطلاب الذين توقفوا عن اللعب وعاد كل منهم إلى مقعده، وران الصمت على الجميع وتعلقت عيونهم بي وبالمدرس وبماذا سيحدث. استجمعت قواي وأجبته: “ما شاغبت يا أستاذ”، لم أكد أنتهي من جملتي إلا ويده اليمنى تضع بصمتها العنيفة على خدي الأيسر الصغير!. كانت ضربة صاعقة وقوية جداً جعلتني أتراجع للخلف لأكثر من مترين قبل أن أسقط على ظهري وأنا أبكي!. بعد زمن لا أعلمه وقفت وأنا أبكي، نعم لقد بكيت وخنت خاتمة الوصايا، اتجهت لمقعدي وعيوني تسح دمعها مدراراً وأنا أحاول كفكفتها بكم ثوبي وأحاول كتم نشيجي بينما بقي الصمت هو سيد المكان لبقية اليوم أو هكذا كنت أتخيل!. كنت أبكي بسبب الظلم أكثر مما كنت أبكي من ألم الصفعة على شدة ألمها.
كان ذلك الدرس الأول الذي تعلمته في المدرسة الدرس الذي شرحه لي المدرس بأبسط طريقة ممكنة، ربما بدون أن يقصد، درساً لم أنسه أبداً، علمني بأن الظلم مرتعه وخيم، وأن كأس الظلم التي تشربها لن تنسَ طعمها أبداً حتى لو عشت بقية أيامك تشرب كؤوس العسل المصفّى، علمني أن لا أظلم أحد أبداً متى ما قدرت على ظلمه حتى وإن كان قد قام بظلمي سابقاً!.
في نهاية اليوم الدراسي، ولأنني “كنت رجلاً” كما كانت تطالبني والدتي دائماً أن أكون فقد عدت إلى البيت وحدي، نعم وحدي، فوحدي ذهبت ووحدي عدت.
وهكذا كنت دائماً، لا أحد معي أو بجانبي فوحدي أذهب، ووحدي أعود!.
وحدي أذهب ووحدي أعود!.
بكيت وخنت خاتمة الوصايا
رائعه بكل نسج فيها
إعجابإعجاب
أهلاً وسهلاً
ممتن لهذا المرور الجميل
إعجابإعجاب
ليتك خرجت من الصف إلى الطرقات والبيوت الطينية والأبواب الخشبية التي يقبع خلفها أناس لا يملكون من حطام الدنيا إلا الطيبة ولا يمر في مخيلتهم الا ما يرونه أو يحسونه تملأ قلوبهم البساطة ولم تبعثر فطرتهم وسائل الطاقة لا يعرفون شيئا خارج حدود تلك القرية الا بعض الأماكن كالقرو وجبل كتيفا الذي بقي مصاحبا لأهلها طيلة الحياة الأسر واحدة والطعام واحد وكل الحارة هم أهل يعرفون بعضهم من الصغير للكبير.. أبدعت اخي ولكنك لم تشفي شوق الضامي لتلك الحقبة الزمنية وفقك الله ورعاك
إعجابإعجاب
أهلاً أهلاً بالأهل والأحبة
الكتابة عن ما قلت تحتاج عمراً آخر، فلا زالت تلك البيوت الكبيرة حُباً الصغيرة مساحة تستوطن جزءاً كبيراً من ذاكرة الطفل
ذاكرة تحفظ الكثير لأبو عويد و”خباويه” الجميلة التي يكررها لنا دائماً ولا نمل من الإجابة عليها بفرح وكأننا نُجيب عليها لأول مرة. وأبو فرحان وسمته الطيب الكريم وأبو عايد وأبو منصور وكثير من الأمهات الصالحات.
غفر الله للجميع وتولاهم برحمته
إعجابإعجاب