تلويحة متأخرة لآخر الفرسان
ولدَ حيث الحرية، حيث الحياة، حيث الحلم، حيث صحراء النفود تطلق ساقيها للريح حتى تمنح الحماد ذلك الامتداد اللانهائي، حيث إبل القبيلة ترى أشجار الروثة والحمض وتذهب حيث تشاء!. كان مولده بعد مولد والدي رحمه الله بعدة أعوام، ولذلك أظن بأنه قد ولد في عام 1345هـ، ولا يغنيني ظني من الحق شيئاً، وبالمجمل لا يعني تاريخ مولده شيئاً لأن البداة لا يعنيهم التاريخ “الرقمي” مطلقاً!. ولأن والدي ليس له أشقاء كان بمثابة الشقيق له، لعبوا سوياً وحلموا سوياً، وعندما تظافرت كل عوامل الأرض وأهلها ضد البداة شعروا بالاختناق فكان الإعلان عن فتح المجال للتجنيد في الجيش السعودي نافذة الأمل غير المتوقعة والتي ستنتشلهم مع جيلهم من الموت اختناقاً، يمموا وجهتهم نحو مدينة الطائف مقر الجيش السعودي آنذاك. حتى أن تلك السنة قد سُميت عند قبيلة الرولة بسنة “كَتَبْ الطايف” على عادتهم في تسمية السنين بأبرز الأحداث التي تقع فيها!. أغتنم شباب القبيلة تلك الفرصة العظيمة وانطلقوا على أقدامهم من صحاري الحماد إلى الطائف وهم يفتقون ظلام الليل بنجومه لكي يفتحوا كوة تطل منها شمس الأمل!. ذهب هو والجميع باستثناء والدي رحمه الله, وقد تحدثت عن عدم مرافقة والدي لهم في هذه التدوينة.
دخلوا سلك الجندية بعد وصولهم مباشرة. صدمتهم هذه الحياة الجديدة، لم تكن كما كانت مخيلتهم والتي اختزنت أنهم سيحصلون على الأسلحة والخيل ومن ثم يذهبون لتحرير فلسطين من رجس اليهود وهناك سيمارسون فروسيتهم المنتظرة!. كان هناك طابوراً صباحياً وهناك تدريبات قاسية وهناك لبس غريب لم يألفوه وهناك من يأمر بقسوة وينهى بقسوة وكذلك هناك من يعاقب ويسجن وهناك نظام يجب أن يلتزم به الجميع!. لم يألف أولئك البداة هذه الحياة الجديدة، كثير منهم اعتبر بأن هذه الحياة الجديدة التي يعيشها هي مجرد قيد وسجن حرية له وليست تلك الفروسية المأمولة التي قطع مئات الكيلومترات على أقدامه للوصول إليها. ولذلك لم يدم الأمر طويلاً فقلة من فرسان القبيلة الصغار استطاعوا التكيف مع هذه الفروسية الجديدة. غالبيتهم بعد مدة من الزمن وبمجرد أن جمعوا مبلغاً قليلاً يحفظ ماء وجوههم أمام أهاليهم خلعوا بدلاتهم ولبسوا ثيابهم القديمة وخرجوا ليلاً وأعينهم معلقة بنجم الجدي واتجهوا شمالاً حيث الحياة التي كانوا يأملون في استعادتها وقد خاب أملهم!.
كان من أولئك القلة الذين بقوا “عمي” الذي أكتب هذه التدوينة عنه وله وفيه. كان شاباً شجاعاً، طموحاً، مغامراً، وسيماً، ذكياً، وعاقلاً. ولذلك استطاع التدرج في سلك الجندية سريعاً حتى وصل إلى رتبة ملازم بعد أن أنهى دراسة الابتدائية ودخل دورة الضباط.
وقف أمام المرآة وهو يرى اسمه، الملازم قياض سالم الرويلي. شعر بالفخر والفروسية الحقيقية، لقد كان من أوائل فرسان القبيلة الجدد في الجيش السعودي إن لم يكن أولهم على الإطلاق!.
كان طوال تلك الفترة يرسل لأهله ما يعينهم على شظف الحياة ويقوم بأودهم وبقية الإبل التي كانت تعاني من قلة الماء والكلأ!.
في عام 1375هـ تقريباً حدث تمرد في جبل الريث جنوب المملكة فأرسلوا عدة كتائب من الجيش لتطويقه والتعامل معه، وكان من ضمنهم عمي. كانت الحرب في بدايتها حرب مشاة فقد تقدم جنود الجيش وضباطهم وتسلقوا جبل الريث وبدأ بينهم وبين المتحصنين في رأس الجبل إطلاق النار بحيث كان يطلق النار مجموعة وتتقدم مجموعة أخرى. وفي أحد المرات التي أراد عمي ومجموعته التقدم ألتفت إليه أحد زملاءه من الجنود في المجموعة الأخرى فرأى رأس عمي يطير في الهواء!. كان المنظر مرعباً إلى درجة أن ذلك الجندي، وكان حديث عهد بالتجنيد، ألقى سلاحه وفر هارباً لا يلوي على شيء. عندما وصل إلى أهله في أطراف نجد أرسل “خط” أي رسالة إلى أحد أقارب عمي يخبره بمقتله والذي بدوره نقل الخبر لأهله فعم الحزن جميع أفراد العشيرة لموته. مرت عدة أشهر قبل أن تصل رسالة من عمي، وقد وصله الخبر بأن هناك إشاعة بمقتله، يخبرهم بأنه بخير ولله الحمد. في تلك المعركة لم يكن رأس عمي هو من طار عالياً كما توهم ذلك الجندي المسكين بل خوذته الفولاذية لأن الرصاصة التي أطلقها أحد المحاربين في الجبل مرت ما بين رأسه وبطن الخوذة فاقتلعت الخوذة وأصيب عمي بخدش بسيط. انتهت المعركة بانتصار الجيش وعودة الجنود لثكناتهم.
في بداية الثمانينات الهجرية قرر وزير الداخلية آنذاك الأمير فهد بن عبدالعزيز إنشاء قطاع سلاح الحدود لمفتشية الحدود الشمالية الغربية وإمارة القريات وكلّف في ذلك الوقت المقدم محسن اليعيش رحمه الله بإنشاء ذلك المرفق الهام واستلام صلاحية حفظ الحدود والمراكز من هجانة ودوريات الإمارة. فطلب محسن عدة ضباط من ضباط الجيش السعودي ممن يثق بقدرتهم في مساعدته للقيام بمهامه على أكمل وجه وكان من ضمنهم عمي.
نسيت أن أقول بأن والدي رحمه الله كان بدون عمل ولذلك ساعده عمي في الالتحاق بسلاح الحدود وخفر السواحل في ذلك الوقت عندما احتاجت الإدارة الجديدة للمزيد من الجنود للقيام بالمهام المنوطة بها. بعد فترة انتقل عمي لجدة وبقي والدي في القريات عدة أعوام.
عندما أتيت للدنيا أسمتني أمي رحمها الله “متعب” وذلك لأنني أتعبتها في الولادة واضطر والدي رحمه الله لاستئجار سيارة من القريات إلى عرعر حيث مستشفى أرامكو المتطور وذلك لأنني اعترضت في بطنها رافضاً للخروج مما استدعى ضرورة التدخل الجراحي لإخراجي بالقوة وكان المستشفى في القريات غير مؤهل للقيام بتلك العملية القيصرية لسببٍ لا أعلمه فطلبت الطبيبة المُعالِجة من والدي أن يأخذ أمي إلى عرعر وهكذا كان!.
أرسل والدي رسالة إلى عمي في جدة يبشره بأن هناك طفلاً مشاغباً قد أتى لهذه الدنيا. فرح عمي كثيراً بالخبر وأرسل رسالة طلب فيها بأن يتم تسميتي باسم “عبدالعزيز” ومعها هدية كبيرة. كانت الرسائل في ذلك الوقت تأخذ في الذهاب شهر أو أكثر وفي العودة كذلك. عندما وصلت رسالة عمي كان عمري قد قارب الخمسة أشهر فلم يتم أخذ الطلب بمحمل الجدية. بعد شهرين من وصول الرسالة أتى عمي لطريف، حيث استقر والدي رحمه في طريف بعد ولادتي مباشرة، زائراً لوالدي فأقام والدي على شرفه وليمة ولكنه عندما وضعت الذبيحة أمامه أقسم بأن لا يأكل منها حتى يتم تسميتي بـ “عبدالعزيز”. كان يرى بقدومي لهذه الدنيا بُشرى عز وخير وليس تعب لوالدي رحمه الله، وهكذا كان، أصبحت “عبدالعزيز” وبقي “متعب” مجرد حلم لم يكتمل!.
مرت السنوات عجلي كطفلٍ استمتع بالركض هرباً من والدته بعد أجاد ممارسة الركض في غيابها!. نقل والدي لطريف ورجع عمي للقريات بعد أن انتقل من جدة لحقل. في نهاية التسعينات الهجرية عاد والدي رحمه الله للقريات ولكن عمي والذي وصل لرتبة “مقدم”، وهي رتبة كبيرة في ذلك الوقت، في سلاح الحدود نُقل إلى “قطاع سلوى” لاختلافه مع رئيسه. بعد أن مكث في سلوى أقل من سنتين طلب التقاعد، فخدمته العسكرية قد زادت عن الثلاثين عاماً ولم يكن يطيق صبراً عن أرضه أكثر من ذلك. حاول فيه رئيسه بأنه سوف تتم ترقيته إلى رتبة عقيد ولكنه رفض وهكذا كان!.
بعد أن عاد للقريات كان قريباً من والدي ومنا ودائماً ما يقضي الليل في مجلس الوالد العامر بأصدقاء الطفولة. كنت أجلس بقربهم وأنا صغير واستمع وأستمتع بـ” سوالفهم عن الرحيل والنزيل والربيع”. كان عمي كريماً مع الكل والكثير من البيوت كانت مستورة في حياتها بسبب لا حرمه الله الأجر والمثوبة.
مرت الدنيا بعجالة وأخذتني الدراسة الجامعية عن الكل فلم أعد أشاهده كثيراً، وعندما عدت أخذتني الوظيفة أيضاً!.
عندما توفي والدي رحمه الله مكث عمي زمناً طويلاً تخونه أقدامه وقلبه في أن يلج منزلنا كعادته. على ما يبدو فأنه كان لا يستطيع أن يجلس في المجلس ويرى مكان والدي رحمه الله خالياً منه!.
في سنواته الأخيرة كان لا يتمالك نفسه من البكاء عندما يزورنه أشقائي وأنا برفقتهم وخاصة في الأعياد. كنت أتأخر في السلام عليه وأحاول حتى تقديم أخي الأصغر، الذي يرفض، ليسلم عليه قبلي لكيلا أرى دموعه العزيزة على قلبي ولكني أفشل!. كان دائماً ما يوصينا بالتكاتف ويذكرنا بوالدي رحمه الله وكنت أصغي لكل كلمة يقولها بكل جوارحي. عندما انتقلنا، أشقائي وأنا، لمنازلنا الجديدة لم يزرنا إلا بعد إصرار منا ولكن مجموع زياراته لم تتجاوز الثلاث مرات. في زواج أحد أبناء أخي أقنعه ابنه لكي يحضر حفل الزواج، وعند بوابة القصر بكى بشدة ورفض الدخول وعاد من حيث أتى!.
هذا اليوم أتتني رسالة تخبرني بوفاته، كانت الرسالة باردة بل وجامدة وميتة أيضاً، بل وميتة أكثر من موته الذي أصبح يقيناً “رحمه الله”. أتتني الرسالة وأنا لوحدي فتجمدت أطرافي وخفق قلبي.
كنت أنوي الصلاة عليه في المسجد والذهاب للمقبرة ولكن قدمي وقلبي وعقلي لم يطاوعاني في ذلك وكأنه عز عليهم أن يرونه محمولاً على الأكتاف بعد أن كان يحمل هموم الناس ويواسيهم!.
قبل المغرب أجبرت نفسي على الذهاب للقيام بواجب العزاء. رحمني ربي فلم أنهار أمام الجميع, تماسكت في لحظتي الأخيرة وبقيت صامتاً وغادرت مكان العزاء مع الآذان. في صلاة المغرب لم أكن بكامل وعيي فقد صليت مع الإمام ولم أدرِ ما قرأ الإمام، خرجت من المسجد وركبت سيارتي ومشيت وفي الطريق توقفت عند الإشارة لا أدري كم توقفت!. وفجأة توقف بجانبي شاب وفتح نافذة سيارته ليسألني:” ليش واقف عند التقاطع والتقاطع فاضي، سلامات عسى ما فيه؟”!. اكتشفت بسببه إنها ليست بإشارة تلك التي أطلت الوقوف عندها، إنه مجرد تقاطع عادي وما ساعد على طول وقوفي خلو الشوارع من السيارات!. لا أدري ما الذي جعلني أتوقف عند ذلك التقاطع!!.
قبل أن أتحرك ألتفت للخلف حيث تركت بيت عمي “رحمه الله” خلفي وسقطت من عيني اليسرى دمعة، ولكنها ليست بدمعة بقدر ما هي تلويحتي الأخيرة لآخر الفرسان!.
وداعاً أيها الفارس النبيل، وداعاً يا آخر الفرسان : (
رحم الله والدي ورحم الله
عمي غضبان
وجميع موتى المسلمين.
جزاك الله خير الجزاء ابو سيف
إعجابإعجاب
رحم الله والدك يا أبا قياض
والله كأن الذي توفي أمس والدي الغضبان للمرة الثانية
وليس والدك!!
اعتذر يا أخي العزيز لعدم قدرتي على مشاركتكم العزاء، فوالله ما بالصدر لا تتسع له آنية الكلام، لا تتسع له!!!
رحمهم الله وغفر لهم وعفا عنهم وجمعهم في الفردوس الأعلى من الجنة
إعجابإعجاب
رحم الله عمي قياض اللهم اجعله بالفردوس الاعلى ووالدي واموات المسلمين
وبارك الله بعياله فيهم الخير والبركه
وجزاك الله خير على ماكتبت من كلمات جميله يستاهلها فارس من فرسان الروله
إعجابإعجاب
آمين
للأسف لم استطع كتابة ما في قلبي كله!.
إعجابإعجاب
الصديق المتعب عبد العزيز آثرت الموقف بصورة أحداث وشواهد ربما ذُكر النزر اليسير منها لقامات رحلوا وهذا الأثر الذي تركوه كان ولا يزال وسيبقى قائماً وقِلة من يضعون البشر وفق منازلهم ويستحضرون سيرتهم بـ أعرض وأطول ومن مكارمهم المتواترة سيرة ووقفه ، وماجعلوه في قرارة أنفسهم لإجل الله مما لانعلم
نسأل الله لهم المغفرة والرحمة وجميع موتى المسلمين
غصة صدقاً أن أتحدث عن العم الراحل سلالة الغاوي الأنيق حين كان يُعين الأسر خِفّية حال غياب مُعيلها ويضع الميسور ويرحل بصمت ، ولا أخفيك سابقاً أنني أحرض جدي رحمه الله يومياً للذهاب لذلك المجلس سيراً على الأقدام كي أحضى بالهبّة الوفيرة من العم أبو مناحي ويفعل كل مرّة ويغدق علّي بما يفوق الوصف ويحرص ألا أخبر والدي ، سألني ذات يوم عن أمر شخصي وأسقط في يدي لمدى سؤاله ومعرفته ووقوفه إن لزم الأمر وهكذا يفعل الطيبون مع الجميع ، عن الخال الغالي فيكفي أن تقرأ جلادته وشموخه حين يرحل أخويه منه تباعاً رحمهم الله جميعاً كان شقيقه الأصغر في كل مجلس يحضر يقف لإجله حتى يجلس كانوا لايتكلمون عنه كثيراً حتى والدتي ربما لإنهم يعلمون أن مافعله في حياته أسمى من أن يُقال إضافة لتنقلاته العسكرية بالوطن وصمته المريب حين أطلب منه تدوين مافعل ، كنت أحاول أن أسرق من والدتي وخالتي كل مايعرفن عن أخيهن وأفشل معهن فقط – قياض مايجّي مثله – ذكرن أنه أخرج ناقلات الماء من قيادة حرس الحدود لسقيا مواشي احد الأسر بعد حدوث ضائقة حصلت لهم ووضع إنسانيته بذلك التصّرف دون تبعات ماقد يحصل له شفع الله له بما قدم وأحسن الله العزاء لنا به ..
عّل سيرة الراحلين تجعلنا نؤمن بأن الخير باقٍ بالإنسان لنكمل بعدهم حسن الصنيع ..
رعاك الله ..
٢٠ مارس – ٢٠٢٠
إعجابإعجاب
يا هلا بأبو الجوهرة
كلامك أكثر من رائع, أعادني لوالدي رحمه الله وتلك الأسرار الدفينة التي لا أعلمها عنه ولكن بدأت أسمعها تتفالت ممن عايشوه وعرفوا وجهه الآخر الذي يخفيه عنا!.
رحمه الله ورحم جدك وخالك وجميع موتى المسلمين وغفر لهم وعفا عنهم وأسكنهم فسيح جناته
فعلاً: “قياض ما يجي مثله”!!
رحم الله آخر الفرسان
إعجابإعجاب