قــلــم بــاركـــر!

“قلم باركر”

في خامس ابتدائي مرّت المدرسة بحالة نشاط “لا صفي” كبير، حيث خُصص ثلاثة حصص في الأسبوع للأنشطة اللاصفية. قُسِّم الطلاب إلى مجموعات حسب اختيارهم، فهناك مجموعة المكتبة، مجموعة الاجتماعيات “الجغرافيا والتاريخ”، مجموعة الأعمال الفنية والرياضة وغيرها. ولأني كنت منبهراً بالكتب وعوالمها فقد انضممت لمجموعة المكتبة بدون أدني تفكير، وقد رحّب بي مدرس اللغة العربية والمسؤول عن المجموعة وحفزني بكلمات جميلة عندما قال لي بأن قراءة الكتب وتمعن ما فيها من أفكار ومعلومات هي من تصنع ثقافة الإنسان. دخلت المكتبة وتجولت فيها ورأيت كماً مهولاً من الكتب لم أره في حياتي من قبل، ولأول مرة أستعير كتاباً في حياتي، ذلك الكتاب هو “رحلات جيلفر”. أخذته معي للبيت وأخفيته عن الكل وقرأته بشغف كبير. في الأسبوع التالي وفي حصة النشاط وبينما أنا في المكتبة أتجول بين تلك النِعم التي لم أكن أحلم بها في يوم من الأيام وأمين المكتبة يساعد الطلاب في اختياراتهم دخل علينا الأستاذ صلاح مدرس مادتي الجغرافيا والتاريخ، وأخذني بالقوة وضمني لمجموعة “الاجتماعيات” بحجة أنني من الطلاب المتميزين في مادتيه! كان موقف مدرس اللغة العربية، المسؤول عن المجموعة، سلبياً فقد بقي صامتاً أمام توسلات عيني ولم يمانع في خروجي من المجموعة وأنا الذي كنت بين نارين، نار الرغبة في الكتب وعالمها الغامض الجميل ونار الخوف من أن أغضب الأستاذ صلاح، فلم استطع الدفاع عن رغبتي الجامحة في الكتب والمكتبة. ما أذكره هو أن نظراتي الحزينة قد سقطت على وجه مدرس اللغة العربية وكنت أشعر بأن ذلك الوجه كان بارداً جداً، لا يشبه برودته إلا أرضية رخام تسير عليها حافياً في ليلة شتاء شديدة الصقيع!

كان التاريخ عشقي، ولايزال، باعتباره قصص وأخبار ومعلومات و”سوالف الأولين” وكان خير مصدر لأرواء ذلك العشق هو المكتبة التي انتزعت منها انتزاعاً ورغماً عني. أما الجغرافيا فلم أكن أحبها كمادة وذلك لأن منهجها كان مليئاً بالدول والمعلومات المكثفة عن مناخها وتضاريسها واقتصادها وأهم المدن وغيرها من المعلومات التي لا تستهويني! لا زلت أذكر ذلك السؤال الذي أتاني في نهاية السنة في صف سادس ابتدائي عن المقارنة بين مناخ وتضاريس كل من دولتي ألمانيا وإسبانيا والذي فشلت في الإجابة عليه بطريقة كاملة. وللمفارقة الكبيرة فإن ألمانيا وإسبانيا هما الدولتان الأوربيتان الوحيدتان التي زرتهما في حياتي إلى لحظة كتابة هذه التدوينة! ربما كان عقلي الباطن ينتقم بطريقته الخاصة.

نعود لحديثنا، كانت مجموعة الجغرافيا مكونة من ثلاثة طلاب فقط، “أمين سر” المجموعة، وكنت أتساءل بعقلي الصغير عن “ماهية الأسرار” التي تكون في عملنا وتستدعي بأن يكون له أميناً يحفظ سره ويكتمه! والذي رُشح له الطالب الأكبر سناً مني وهو من طلاب الصف السادس، لازلت أحفظ اسمه، وأنا وزميل آخر لي، لا أتذكر اسمه الآن، كأعضاء من نفس الفصل، فصل خامس “أ”. أخذنا الأستاذ صلاح أنا وزميلي لمعمل الجغرافيا وأحضر لنا خشب “الأبلكاش” الرفيع وأعطانا مناشير صغيرة ورسم على الخشب بقلم الرصاص أشكال معينة لنقوم بقصها بطريقة احترافية وذلك لصنع خارطة المملكة العربية السعودية على لوحة كبيرة من الخشب، كان الخشب المقصوص بأشكال وأحجام مختلفة يرتفع ويُلصق بصمغٍ خاص فوق بعض لتوضيح التضاريس على الخارطة وخاصة الجبال حسب تدرّج ارتفاعها بحيث كنا نلوّن كل قطعة خشب بلون معين وذلك للتعبير عن الارتفاعات المختلفة وأذكر أن جبال السروات وخاصة بمنطقة الجنوب السعودي قد احتاجت لجهد عظيم منّا حتى ننتهي منها، وبالمقابل فإن منطقة الشمال السعودي لم تحتج أي مجهود منا فقد كانت سهلاً منبسطاً لم نضع أي قطعة إضافية ولم تكن بحاجة إلا لتلوينها باللون الأصفر الذي جعل منها مساحة هائلة للحياة والموت! استمتعت كثيراً وأنا “أدهنها” باللون الأصفر الفاقع الجميل، أنها أرض أجدادي البُداة الذين أغتالتهم المدنيّة. مكثت أنا وزميلي لأكثر من شهرين ونحن نعمل بمعدل ثلاث حصص أسبوعياً وهي حصص النشاط وأوقات متفرقة نسرقها من وقت “الفسحة” القصير وكذلك حصتي الإملاء والخط والتي كان من المفترض أن يدرسنا فيهما مدير المدرسة!

كانت نهاية العمل في اللوحة هو يوم الأربعاء، فقال لي الأستاذ صلاح بأنه سيتم كتابة اسمي واسم زميلي على اللوحة وسيكرمنا مدير المدرسة يوم السبت أمام الطابور الصباحي مع هدية عبارة عن طقم قلم باركر، والذي كان امتلاكه حلماً جميلاً لكل طالب في ذلك الوقت.

جاء يوم السبت، على غير عادته، بطيئاً وأنا أتوثب للتشرف بالسلام على مدير المدرسة والاستماع لأسمي الثلاثي يتردد في أرجاء المدرسة وأتخيل كيف سأضع قلم الباركر في جيب ثوبي العلوي وكيف سأعود للبيت وأُريه أهلي ومدى فرحتي المرتقبة بمفاجأتي لهم بمثل هذه المفاجأة النادرة في ذلك الزمن!

بدأت الإذاعة كالمعتاد، القرآن كريم ثم الحديث الشريف وبعد نهاية الفقرات أتى دور التكريم. بدأتُ أتأهب للانطلاق وأنا أتحدث مع زميلي، الذي كان يقف بجانبي ويتأهب مثلي، عن لون قلم الباركر هل هو أسود أم أزرق! تفاجأت باسم أمين المجموعة يدوي عبر مكبرات الصوت في أرجاء المدرسة، يدعونه للتشرف بالسلام على مدير المدرسة ويستلم الجائزة منه وهي عبارة عن طقم أقلام باركر وهو يقدم له اللوحة وهي ممهورة باسمه! صعد “أمين السر” وهو يسير بطريقة واثقة ويلبس ثوباً عديم اللون أو هكذا تخيلته لحظتها. يُعطي المدير اللوحة ويتسلم منه طقم أقلام الباركر وهو يدير وجهه لطلاب المدرسة الواقفين في الطابور الصباحي وترتسم على محياه ابتسامة النصر بإنجازه العظيم، إنجازه العظيم المسروق!!

أخرستني المفاجأة وأنا أقف في طابور المدرسة، كان صدري يكاد أن ينفجر بسبب الحرارة التي أصبحت تتقد داخله!

الحصة الثالثة في ذلك اليوم كانت حصة الجغرافيا، دخل أستاذ صلاح وهو يبتسم ويشكرني أنا وزميلي، لم أرد عليه أو أسأله، ولكن زميلي الذي كان غاضباً سأله بغضب: “وليه ما كرمنا المدير يا أستاذ، وليه اسم فلان على اللوحة وهو ما أشتغل فيها”؟؟ابتسم الأستاذ صلاح ابتسامة بلهاء لا معنى لها وهو يقول، “فلان هو أمين المجموعة وهو بصف سادس وأكبر منكم ولازم يكون التكريم لكم باسمه وتكريمه يكون تكريم لكم جميعاً”! شعرت بداخلي بصرخة في داخلي كصرخة المطعون من الخلف غدراً وهو يحاول أن يلتقط آخر أنفاسه متسائلاً: “ليه طيّب”؟

“ليه طيّب”؟ لا زالت وبعد مرور كل هذه السنوات الطويلة تسترجع صوتها بين فينة وأخرى عند مرور موقف مشابه لذلك الموقف! غضبت ولكني كتمت غضبي والمدرس يحاول أن يسترضيني بأنه سوف يشتري لنا هدايا خاصة تعبيراً عن شكره لجهودنا وامتنانه. شكرته وأخبرته بأنني لن أقبل إلا هديتي من المدير، وأخبرته أيضاً بأن غضبي الأكبر ليس لعدم إعطائي الجائزة لأنني لم أعمل من أجلها، وإنما لأن الجائزة ذهبت لمن لم يفعل شيئاً فالطالب لم يدخل المعمل لحظة واحدة فكيف يحصل على الجائزة؟!

منذها ترسخت كراهيتي الشديدة لشيئين؛ كلمة “أمين”، و”العمل الجماعي” غير واضح المهام والاختصاصات!

لا أتذكر إلى هذه اللحظة بأنني قد شاركت بأي عمل جماعي كبير آلية عمله غير معروفة، بل أنني أنفر بشدة من جميع الأعمال الجماعية مهما كانت ما لم تكن محددة المسؤوليات والمهام بطريقة واضحة جداً! وأيضاً اقتنعت بأن من يسيء إلينا أو تكون الإساءة إلينا عن طريقه، حتى لو لم يعلم، لن ننساه! سيختزنه العقل الباطن طويلاً وسيسترجعه عند أول حالة تذكر للموقف أو ما يشابهه من المواقف. أيضاً عرفت بأن كثير من نكون معهم مدة طويلة وتكون علاقتنا بهم عادية أو تحت ما يحكمه ظروف العمل أو ظرف المكان والزمان، سُرعان ما ننساه، لذا إذا أردتم أن تبقوا في ذاكرة الآخرين طويلاً أزرعوا وجوهكم وأسماءكم فيها بأفعال أو أحداث أو قصص يكون وقعها قوياً في ذهن المتلقي بشرط أن تكون من النوع الجيد أو على الأقل غير المؤذي! فإذا لم تستطيعوا فعل ذلك فكونوا كزميلي، الذي جمعني به مكان العمل لشهرين تقريباً ومع ذلك لم تحتفظ ذاكرتي لا باسمه ولا رسمه، كونوا كـ أياه تمرون خفيفاً على الذاكرة لا تؤذون أحداً ولا تتركون في قلبه ندبة سوداء تنبض بالألم كلما مرّت على الذاكرة أسمائكم!

الكاتب: عبدالعزيز الرويلي

عابراً في مفازة الكلام، أحدو خلف نياق المعنى في التيه! aazizrowiliy@gmail.com

6 رأي حول “قــلــم بــاركـــر!”

  1. كم خطفت منا فرحتنا في لحظات صعف منّا، ونجد أنفسنا ندافع عن ضعفنا بضعفِ حملنا معنا سنين طويلة.
    لقد آن لذاكرتنا (عقلنا الباطن) أن تضع عن كاهلها هذه الصدمات. وأن نشتري قلم باركر تكريماً لها.

    Liked by 1 person

    1. يا هلا وغلا بأبو ياسين
      كلامك جميل جداً يا صاحبي، وهذا ما أتداوى به أحياناً!
      أتداوى بالكتابة ليس حباً بها ولا إجادة لها ولكني أراها عملية تفريغ لما تضيق به الصدور وكذلك التخفف من جميع ما قد يؤثر على قلوبنا/أرواحنا!
      ممتن يا صاحبي🤍🤍🤍

      إعجاب

  2. أهنِئُك ..
    نعم أهنِئُك ..
    إذ عبَرتَ بتجربتك السنين حاملًا معك رائحة المطالع (صرير قلم الرصاص)!
    كم من (قلم باركر) تعثرنا به فأفقدنا ثقة التجاوز في مفازة الرّوح، حين أخرس الألسن وعطّل المسير، وولّد الكبت!
    المدير جائرٌ؛ لكنكَ حذِق!

    إعجاب

    1. ممتن لتهنئتك ولمرورك
      التحارب والمواقف هي التي اعطي القيمة الحقيقية للسنين المُعاشة، ولذلك فكثرة أقلام الباركر في حياتي ولّدت في نفسي معرفة مرارة الظلم ولذة التجاوز والتسامي على الألم، ولهذا ولله الحمد أقف على الحياد من كل شيء، لا يستهويني شيئاً ولا أرو أي قيمة لأي شيء خارجه عن معناه!
      لا أحزم بأن المدير هو من كان وراء تغيير الفائز الحقيقي بالجائزة، لا أجزم بشيء خارجٍ عني!
      أجزم بشيء واحد، وهو أني كبرت بواسطة هذا الموقف أكثر من عشرة أعوام مرة واحدة وهذا ما يعطي الحياة لذة أكثر بالنسبة لي!

      إعجاب

  3. نبشت الذاكرة بقلمك الباركر وأخذتنا بعيدا هناك حيث اغتيلت الفرحه في رحم الأنتظار
    طرح مميز وتصوير متفرد كما عهدنا قلمك

    Liked by 1 person

    1. كثيرة هي حوادث قلم الباركر، وأظن بأن الكثير منا قد فقد قلم ما في حياته أو أخذ قلماً لآخر بدون حتى أن يشعر بأنه قد أخذ ما يستحق!
      جميلة هي الحياة، وأحد مكامن الجمال في أن تتعرض للظلم ونحن صغار حتى نعرف طعمه المر ونحن كبار فنموت دون أن نتجرعه أو نرفض أن نسقيه لغيرنا فيما لو وسوس لنا الشيطان في سكبه في أناء أحدهم؟

      إعجاب

أضف تعليق