“ماجد ما كان يلعب”!

إهداء أول:

إلى جدتي الحجية، لأنها البدء والانتهاء لأنها السيدة الأولى لمساحات الذاكرة اللامتناهية!

إهداء ثاني:

إلى الدكتور الجميل سعود الصاعدي ‏@SAUD2121 الذي حفزني بتغريدته وردوده للكتابة عن ماجد*

الذاكرة عدو جميل لا تعرف سبباً لحمايته لك ممن يريد الغدر بك، وصديق لئيم لا تدري لماذا غدر بك! الذاكرة متاهة الروح ولذا هي دائماً ما تتعمد الإتيان بنا إلى قعرها والضياع بها، نجد تلك الذكريات الذابلة، العطشى، الجميلة، الميتة، النائمة، فننسى أنفسنا لوقتٍ لا نعلمه على وجه اليقين، ولكنه وقت يتجاوز طوله طول الوقت الفيزيائي العادي الذي نعيشه بملايين السنين!

كانت البداية المبكرة عندما كان أخي الأكبر مني مباشرة يُجلسني بجانبه طالباً مني مُتابعة المباريات، وهنا كان أوّل تعرّف لي على ماجد. لقد أسرتني مهارته وأهدافه ومن ثم تواضعه، والأهم من هذا كله أسرتني طريقته الخاصة للتعبير عن الفرح بعد تسجيله للأهداف وخاصة المهمة والمصيرية.

لذلك فعندما كنتُ صغيراً، كنتُ مفتوناً باثنين، جدتي “الحجيّة” ذات الوجه الأبيض النقي المتغضّن الذي يزهو بوشمٍ عجزت الأعوام “السبعين” أن تمحوه، وماجد عبد الله. جدتي كانت عالمي وتاريخي الآخر والذي أتمنى لو تأتيني القدرة على كتابته كاملاً في يومٍ ما وليس كما كتبت عنها ههنا ككتابة عرجاء لا تليق بها! ولأنها كانت عالمي كنت دائماً ما أحاول أن أجعلها تشاركني أفراحي ومسراتي البسيطة بأي شكل من الأشكال.

لم تكن جدتي _رحمها الله_ تعرف شيئاً عن كرة القدم بالطبع، ولكنني لم أستسغ عدم معرفتها بماجد عبد الله، لذلك كنتُ وبكل شقاوة الدنيا التي تتلبس ذاك الطفل الصغير أُحاول التقرب لها بكل صورة ممكنة والحديث عن ماجد عبد الله وضرورة تشجيع فريق النصر. لم تطُل محاولاتي كثيراً حتى اقتنعت جدتي _أو هكذا أوحت لي_ بأنها نصراوية، بل وماجدية وطلبت مني أخبارها متى كانت هناك مباراة للنصر أو لماجد مع المنتخب. كنت في كل مباراة أشاهدها في جهاز التليفزيون الوحيد بالمنزل والموجود في الصالة _والصالة هي المقر الدائم لجدتي فيما عدا فترة النوم_ أجلس بجانبها وأتفاعل بكل جوارحي مع المباراة. مرات عديدة كنت أقبلها وأحتضنها بعد تسجيل النصر _وخصوصاً ماجد_ لأي هدف بالمباراة.

ولأنها بذرت نظراتها الجميلة في صحاري الحماد اللامتناهية الامتداد، لم تترك معها في أواخر عمرها من تلك النظرات إلا ما “يقدّيها” ولذلك كانت لا ترى جيداً. كانت تسألني في كل مرة يعرض على شاشة التلفزيون مباراة: “ماجد يلعب؟”. فأرد عليها فرحاً باهتمامها: “لا يا جدة هذي مباراة ثانية”. تأتيني ردة فعلها سريعاً: “لا لعب ماجد علمني يا وليدي”. ينفجر الطفل بي فرحاً وهو يصرخ: “أبشري يا جدة”. لم أكن أعلم أنه كل كان ما يهمها هو إسعادي وأنها لا تعرف ما هي كرة القدم أصلاً.

ماجد يلعب؟

لا، ماجد ما كان يلعب يا جدتي! ماجد كان “يسوي” شيء غير اللعب، تقدر تقول سحر، تقدر تقول فن، تقدر تقول شي خارج إطار العقل. بس صدقاً “ماجد ما كان يلعب”!

مع بداية حركة ماجد في الملعب كانت تتهيأ الفرقة الموسيقية لعزف جميع المعزوفات الخاصة والتي لم تكتب إلا لماجد، موسيقى الفرح لأهدافه، موسيقى الحزن لإصابته، موسيقى السلام الملكي لبطولاته! عندما ينطلق ماجد للكرة يرتبك أمامه من كُلّف في مراقبته من مدافعي الفريق الآخر، يتمنى لو يكن موجوداً في الملعب لحظتها! عندما ينطلق ماجد بالكرة يرتبك الفريق الآخر كله، يرتبك الجمهور، يرتبك المعلق، يرتبك قلبي الصغير وقتها! يتجاوز ماجد مدافع فيسقط، يسقط لأن قلبه لم يحتمل رؤية ماجد وقد تجاوزه، تنطلق الموسيقى صادحة من بين أقدامه وكلما رفع قدماً اهتزت النوتة طرباً قبل أن تحاول جاهدة مجاراة نغمات أقدامه على العشب وفي مغازلة الكرة ومعانقتها! يتجاوز ماجد الآخر، فيحاول، ذاك الآخر، جاهداً ألا يقع في العار الذي وقع فيه صاحبه، لا يستطيع وأنى له ذلك! يلجأ لطرق غير قانونية محاولاً أسقاط ماجد، ولكن محاولته تبوء بالفشل، الفشل الذي سيُفرح الملايين من عشاق المستديرة. ينفرد ماجد في الحارس، تصدح الموسيقى وتتلهف آلاتها الإيقاعية للحصول على حصة الأسد في الثواني المقبلة من بقية آلات الفرقة، تصبح الدنيا بمجملها أضيق من فتحة الإبرة في عين الحارس بينما ماجد يسير بعبثيته الجميلة، بسورياليته الأخّاذة ولا يشاهد أمامه إلا دمية تهتز له طرباً ولموسيقاه الجميلة التي يعزفها بأقدامه. ماجد لا يريد إرباك الحارس المسكين ولذلك يرى بأن عليه واجباً ألا يقذف الكرة بقوة قبل أن يصل إليه لأنه ولشفافيته لا يريد جرح مشاعره التي تتمزق في كل اتجاه لحظتها! يظن ماجد، وظنه يقين، بأن من الأجمل أن يترك الحارس يذهب يميناً ويتجه هو يساراً رغبة منه في رفع الحرج عن ذلك المسكين! بحركة جميلة من جسد ماجد يذهب الحارس يميناً، يذهب لمدراة أحلامه البائسة، يبكي حظه العاثر، ولكنه في داخله يستمتع، يفرح كثيراً بأن اسمه سيخلده التاريخ لأن ماجد قد سجل فيه هدفاً جميلاً كهذا الهدف! يسرى ماجد تتردد في أرسال الكرة للشباك التي تهتف لها مرحبة لسبب لا يدريه، ولكنه يخجل في النهاية من لهفة تلك الشباك للكرة فيرسلها على استحياء، يرسلها دائماً قريباً من القائم وكأن ضميره يؤنبه لما حدث للمدافعين وللحارس والذي سقط عن يمينه وكل خليه في جسده تبكي حسرة على حظه العاثر! تصل الكرة للشباك فتضمها بحنوٍ بالغ وهي تبثها شوقها لها، تصدح الموسيقى من كل مكان، تنتصر ألات الإيقاع على الآلات الوترية لحظتها، تزداد ضراوة الحرب الأهلية بين آلات الفرقة الموسيقية، يصدح الجمهور بموسيقاه الخاصة، تُفتن الدنيا بكل ما حدث ويحدث، ينطلق ماجد للأمام راكضاً وهو يرفع يده اليمنى كما لم يرفعها أحد! فـ يده اليمنى التي ترتفع عالياً هي أحد أهم ما يتميز به ماجد، ومميزاته لا تعد ولا تُحصى كلاعب خارق، أن له طريقة متفردة في الاحتفال بتسجيل الأهداف، وإن كانت الطريقة تتأثر بأهمية الهدف أو المباراة من عدمه. عندما يسجل ماجد الهدف، خاصة عندما يسجله بقدمه اليسرى، ينطلق راكضاً جهة اليسار من مكانه، ينحي بجسده ناحية الأرض يساراً قليلاً وكأنه يريد أن يهمس برسالة لمنطقة الجزاء في ملعب الخصم، أنا أحبك لأن أفراحي تنطلق منك أيها المستطيل الصغير! يستوي جسد ماجد فيرفع يده اليمنى باسطاً كفه بكاملها، تاركاً فراغات بسيطة بين أصابعه وهو يحي الجمهور والذي يبادله التحية بأمثالها، أحياناً إذا كان الهدف يمثل أهمية كبرى يقوم برفع يده اليسرى بعد اليمنى وكأنه يخاطبها، لا بأس سأترك لك فرصة للفرح أيضاً.

يده العظيمة تلك كانت تعنى إعادة الهدوء للعالم، منحه ساعة سلام، ساعة حب، ساعة أمن، عزف معزوفة موسيقية لن تتكرر، ساعة تغنيه عن الكثير من حياته الماضية التي عبرته بدون أن يعيش مثل هذا المشهد! يعود ماجد للملعب هادئاً متواضعاً وكأنه لم يفعل شيئاً بينما العالم من خلفه يكاد أن ينفجر من الفرح والحزن معاً، فهو وإن كان يهدينا الفرح فهو يهدي لآخرين حزناً عميقاً لن تمحوه الأعوام التي سيعبرها لاحقاً مهما تطاولت وهي تسير في طريقها اللامتناهي الامتداد!

بعد دخولي للجامعة بهت حبي لماجد والنصر، لم أعد أهتم لماجد وأهدافه، لمباريات النصر والمنتخب، انتبهت لاحقاً بأن ذلك قد بدأ فعلياً من بداية موسم 1994، في ذلك الموسم وما تبعه من مواسم لم أتذكر مرة واحدة بأنني سألت عن مباريات النصر ولا عن ماجد وأهدافه، يأتي الدوري وينتهي ولا أهتم كثيراً به، يفوز النصر ببطولة، ويسجل ماجد، كعادته الأهداف العظيمة ويفوز بلقب الهداف ولا أهتم كثيراً لهذا الأمر! وكانت عندما أساءل نفسي، ما الأمر؟ كنت أجيب بلا مبالاة، بأن الأمر يتعلق بالدراسة وتعبها والغربة وتغير الاهتمامات! مضى عمر طويل حتى نسيت كل ما يذكرني بالكرة وماجد والنصر!

 في أواخر عام 2013 دار نقاش بيني وبين الأصدقاء ‏@alghubein@enazisf@MO7AMMEDRUMAI7 عن النصر فقلت بأن الطفل يجب أن يتربى على عشق النصر وذلك لكي يكبر ويعرف بأن العالم ليس وردياً ولا جميلاً وبأن الصدمات ستؤلمه وبأن الفشل لن يكون غريباً في حياته وأن الأعداء سيكونون كالماء في حياته! كل هذه الصدمات ستجعله قوياً في المستقبل، لا يعرف معنى الهشاشة ومن هذا المنطلق قمت بشراء لباس رياضة لطفلي الصغير سيف ووضعت صورته في تغريدة بتويتر، كل ذلك لأزرع في ابني القوة، تلك القوة التي ينتجها الفشل بعد أن يتبين الإنسان سبب فشله! لكن في تلك السنة بدأ النصر في العودة للمنافسة وتحقيق البطولات ومع ذلك لم أكن أهتم كثيراً في تتبع أو متابعة مبارياته، كنت عندما أعلم عن فوزه في مباراة ما فأذهب لليوتيوب لمشاهدة أهداف المباراة فقط!

أعود لحديثي عن عدم مبالاتي بتشجيع النصر، حقيقة لم أفكر كثيراً بالأمر وعزيته إلى دراستي الجامعية وقتها ومن ثم الوظيفة والتقدم بالعمر واختلاف الاهتمامات، ولكن عندما غرد الدكتور سعود الصاعدي تغريدته عن ماجد ورددت عليه، أعادتني ذاكرتي إلى الأماكن القصية فيها فعرفت لماذا لم أعد أهتم بماجد والنصر والكرة!

في تلك السنة تقريباً كانت وفاة جدتي الحجية رحمها الله، لقد ماتت الإنسانة التي زرعت في داخلي حب الجمال والإبداع، تلك التي كانت دوماً ما تسألني عندما تشاهد أي مباراة على شاشة التلفزيون:

“ماجد هو يلعب”؟!

ماتت جدتي الحجية رحمها الله وغفر لها وعفا عنها، ماتت من كانت هي المعادل الموضوعي لحبي لماجد والنصر والكرة فمات مع موتها حبي لهما!

ويبقى السؤال عالقاً بلا إجابة:

” ماجد هو يلعب “؟!

ملاحظة:

لا تلوموني على كثر الفواصل وقلّة النقط فيما ورد أعلاه، لكن ربما لأنني أرى بأن ماجد عبارة عن جملة لا متناهية الامتداد من الإبداع!

  • كانت تغريدات الدكتور سعود التي استفزتني للكتابة في 18 سبتمبر 2021 وأتذكر بأنني قد بدأت في كتابة هذه التدوينة في ذلك الوقت، ولكني أُنسيتها للأسف كل هذا الوقت، فلم أجدها إلا هذه الليلة!

الكاتب: aazizrowiliy

عابراً في مفازة الكلام، أحدو خلف نياق المعنى في التيه! aazizrowiliy@gmail.com

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

%d مدونون معجبون بهذه: