“عشرين عام كنها يوم أو دون” محاولة اعتذار متأخرة من ابنٍ عاق!

26/ 1/ 1424

26/ 1/ 1444

عشرين عامٍ كنها يوم أو دون

عشرين عام والسنين استدارت

وفـ ليلة صرخت في لحظة جنون

وقطاة صمتي من فزعها استذارت

وطارت أسراب القطا تسجع لحون

ولا انتبهت بغفلتي، شلون طارت؟

تسجع بسماء الذاكرة بلحن موزون

ودارت بفيافي الذاكرة، ثم حارت

وطارت ومرت لها غصون وغصون

غصون صبرٍ من قهرها استجارت:

قطا قطا، والصمت ظالم وملعون

قطا قطا، وصروف الأيام دارت

قطا قطا، والدمع بالجفن مسجون

قطا قطا، وجروح الأيام جارت

قطا قطا، ويا ضيعة وشلون:

قفّت بي الأيام ثم استخارت…؟

            …..

يا بوي أنا من رحت غنيت محزون

وحيران حزني بالمعاليق ثارت

حنّت، حنين الخِلج ثم سالت عيون

وناديت أنا لشفاي، وبالعهد بارت!

ورجعت أبي منّك ولو شوية ظنون

أهدّيّ بها روحٍ من الفقد خارت

ولقيت ثلاث أشيا مليانة شجون

ورجعت أسأل عنّها شلون صارت؟

مقص مع ملقاط، والشعَر مغبون

وختمك ينادي وفرحتي به توارت

بالمقص قصيت حلمي عن الدون

وبملقاطك ألقط به هموم تبارت

وبختمك ختمت الصمت وسالت عيون

وقطاة صمتي من فزعها استذارت!

………….

٢٦/ ١/ ١٤٢٤هـ

٢٩/ ٣/ ٢٠٠٣

كعادته دائماً، يستيقظ لصلاة الفجر بواسطة صوت المؤذن في المسجد الذي بجواره، يصلى الفجر، يقرأ ورده من القرآن، يتناول قهوته المصنوعة على نار الحطب في بيت الشعر المسجون داخل سور الفيلا التي تسكنها العائلة، وهو يستمع إلى لحنٍ جنائزي مؤذٍ يعزفه قارئ النشرة الإخبارية من هيئة الإذاعة البريطانية في الساعة السابعة صباحاً! تدمير القصر الجمهوري، احتلال المناطق القريبة من بغداد، الهجوم على مطار بغداد الدولي! هذه أبرز عناوين الأخبار التي كان يهزّ رأسه بحزنٍ بالغ وهو يستمع لها!

أثناء إعداد القهوة يبدأ توافد الرجال من الجيران والجماعة والذين يستجيبون لنداء “النجر” وهو يدعوهم كل صباح مرحباً بهم كعادته كل فجر! يتناول فطوره مع الموجودين ويبقون في مجلسهم وتدور بينهم الأحاديث القديمة واستعادة حياتهم الذاهبة والتي غالباً ما تبدأ بـ: “رحلنا…، نزلنا….، قيّضنا….، ربّعنا” إلى صلاة الظهر في غالب أيامهم!

كان ذلك ديدنه فيما سبق من أيامه، ككل يوم، لكن في يوم السبت ٢٦/ ١/ ١٤٢٤هـ الموافق ٢٩ مارس ٢٠٠٣ حدث شيء خارج عن المألوف! كان ابنه الأقرب إليه عبدالله إذا أراد الذهاب للعمل يسأله قبل أن يذهب هل يحتاج أو يريد شيئاً معيناً؟ في ذلك اليوم قال له بأنه يشعر بألم في كتفه الأيسر، ولأنه كان قد نجا من جلطة في القلب قبل أربعة سنوات وأشهر، طلب منه ابنه أن يأخذه للمستشفى للاطمئنان.

في الساعة 8:05 ذهب مع ابنه القريب منه للاطمئنان على الألم. عندما همّ بالخروج من بيت الشعر قال له أحد الرجال الموجودين في مجلسه الصباحي: “لا تأخر علينا يا بو مناحي”، رد عليه والدي قائلاً: “لا ماني متأخر إن شاء الله، شوي وأجي”!

8:30٠ اتصل بي شقيقي ليخبرني بأنه سقط أمام بوابة مستشفى الملك فيصل! طلبت منه الطبيب الموجود لأسأله عن الوضع الصحي، كلمت المدير الطبي الدكتور حسن رحمه الله وسألته، فرد علي بكلمة واحدة فقط: “”serious!

عرفت بأن لحظة الوداع قد حانت أو قد أوشكت! ركبت سيارتي على عجل، كنت أسير بدون وعي مني، وإلى هذه اللحظة لا أدري كيف وصلت! كل ما كنت أعيه أن السماء كأنها قد اختفت خلف ملايين من أسراب القطا التي كانت تخرج من فمي دون أن أشعر، وكلها تصرخ بصوتٍ واحد: “قطا قطا….”

8:45 وصلت للمستشفى. سألت الدكتور حسن، أخبرني بأن القلب قد توقف ثم عاد للعمل!

9:00 نُقل للمستشفى العام بعد تحسن النبض قليلاً في سيارة الإسعاف ومعه شقيقي وتبعتهم بسيارتي. في الطريق اتصلت على مدير المستشفى لأخبره عن حالته، وعندما وصلت وجدت كامل الطاقم الطبي موجوداً في الطوارئ وعلى رأسهم مدير المستشفى الدكتور منصور اليوسف والمدير الطبي عدنان سلهب! أخبروني بأن القلب عاد للتوقف بعد الوصول للمستشفى للمرة الثالثة! عاد قلبه لدقيقة أو أقل ونظر إلي نظرة ما زالت تستوطن ذاكرتي وقلبي وكأني أراه لحظة هذه الكتابة الآن! عاد قلبه للتوقف للمرة الرابعة!

وقفت أمامه لا حول لي ولا قوة إلا بالله، ثم أماني بأن تعود أسراب القطا التي تحوم حول رأسي لفمه، وتخرج منه مرة أخرى مؤذنة بعودته للركض مجدداً في دروب الحياة! كميات كبيرة من الايبنيفرين حُقنت في وريده لعلها تساعد قلبه للعودة للعمل، ولكن لم تبدر من القلب أي استجابة! استخدموا جهاز صدمات القلب الكهربائي، ولكن لا استجابة أيضاً!

كان جميع الزملاء موجودين حوله، بداية من مدير المستشفى الدكتور منصور وكبير الأطباء د عدنان واستشاري القلب د محمود العوضي الذي كان يقوم بعمل الانعاش القلبي له بيده، وغيرهم من الزملاء، ولكن…! بعد أكثر من ربع ساعة قرر الدكتور محمود نقله للعناية المركزة. كان السرير يتحرك ومعه الدكتور محمود وهو مستمر في عملية الانعاش القلبي. أُغلق باب العناية المركزة وبقيت أنا وأخي عبدالله في الخارج ننتظر! كان يتلبسني في تلك اللحظة شبه يقين بأن هذه اللحظة الأخيرة التي سأراه فيها، ولذلك قررت الاحتفاظ بآخر مشهد له في أقصى مخابئ الذاكرة. كان ينظر لي بحب وخوف وكأنه يريد أن يقول شيئاً ولا يستطيعه! كانت تلك النظرات في آخر مرة عاد قلبه للعمل قبل يلوّح مودعاً لسفرٍ لا أوبة منه!

10:30 نصف ساعة مرّت كدهر أو أطول، بعدها خرج الدكتور عدنان من قسم العناية المركزة مُعزياً لشقيقي ولي، قائلاً بأنهم فشلوا في إعادة القلب للعمل لأكثر من نصف ساعة من الانعاش القلبي! قال كلاماً كثيراً لم اسمعه. لقد انتهى كل شيء من المُمكن أن يستحوذ على سمعي أو انتباهي.

بعد أن انتهى الدكتور عدنان من كلامه، شعرت ببرودة شديدة في ظهري وبعدها شعرت وكأنه يسقط في الفراغ. لا ظهر لي، هذا ما شعرت به لحظتها والعرق ينز من جبهتي والنار تضطرم في صدري وألم حاد في الحلق، حتى أنني أحاول أن ابتلع ريقي ولا استطيع!

لم أبكِ! ربما لأنني بإرثي البدوي العميق ووصايا أمي بأن الرجل لا ينبغي له البكاء. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى ربما محاولة لتمثل قول السمؤال: “إذا خلا منا سيد، قام سيد”، مع الفارق طبعاً، ولأن البدوي عندما يموت والده، يُصبح “هو” والده بطريقة أو بأخرى!

توجهت لأخي لأعزيه وأعرف بأن كل الكلام لا معنى له في مثل هذا الموقف، وتحديداً بالنسبة له فهو الرفيق اليومي له في الحِل والسفر والقنص! كان شعوري مبدداً بين فجيعتي وفجيعة شقيقي وفجيعة والدتي رحمها الله، المرتقبة، رفيقة عمره لأكثر من خمسين عاماً.

لأكثر من سنة وأنا أغص مرات ومرات قبل أن أُتبِع كلمة “والدي” بـ “رحمه الله”! وثلاثة عشرا عاماً أُخرى حتى تجرأت لأنظر لصورته دون أن أشيح بصري بعيداً عنها بلا شعور!

…….

يا والدي….

كان “سبتاً” فادح الخسارة وعظيم الحزن أعادني لسبتٍ قديم جعلني أكره يوم السبت مرتين! المرة الأولى كانت يوم السبت 1/ 9/ 1419هـ عندما دخلت لفناء المنزل عائداً من الخارج قبل آذان المغرب بساعة لأجدك ممدداً على البلاط وقد توقف قلبك عن النبض وأبناء أخوتي الصغار مجتمعين حولك وعلى وجوههم علامات الاستغراب. وعندما شاهدوني قالوا بصوت واحد: “عمي، شِف جدي نايم على البلاط”! لم يكذبوا، كنت نائماً فعلاً، ولكن بدون رغبتك.

كاد أن يقتلني منظرك وأنت ممدد على الأرض! أمسكت بيدك اليمنى، كانت ساخنة، وهنا عادت الحياة لقلبي! وضعت أصابعي على عنقك ولم يكن هناك أي مؤشر لوجود نبض، وضعت أذني على قلبك، ولا نبض أيضاً! عرفت بأن القلب قد توقف للتو، فبدأت بسرعة في إنعاش القلب بالضغط بباطن الكفين ثلاث مرات في منتصف الصدر وإلى اليسار قليلاً كما تدربت على يد الدكتور عبدالغني. كان الفم مغلقاً بأحكام، حاوت أن أفتحه، ولم استطع بسبب التصاق الفكين ببعضهما بقوة! ترددت قليلاً في استخدام القوة مع وجهك الشريف، ولكني اضطررت مُجبراً لذلك! نجحت في أن أفتح فمك ومن ثم أعطيك قبلة الحياة، وإن كانت تلك القبلة مرة ومحزنة في وقتها، ولكني الآن وبعد مرور أكثر من أربعة وعشرين عاماً أجدها أجمل وألذ قبلة قبلتها لك!

كنت أضغط على صدرك ومن ثم أمنحك قُبلة الحياة في فمك، وأنا تمرني لحظات التدريب في مادة الإسعافات الأولية التي درستها في الكلية وكلمات الدكتور عبدالغني وهو يخاطبني: ممتاز يا عبدالعزيز، ربنا يجعل على أيدك إنقاذ حياة إنسان ما”! دقيقتان مرت، من الانعاش القلبي حتى عاد القلب لضخ الدم بحمد الله.

 عندما عاد التنفس خرج مع أنفاسك بعض الزَبدْ، وكأنني رأيت بأنه قد تحوّل لأسرابٍ من القطا، أو هكذا خُيّل إلي! غادرت شفتيك واستوطنت صدري. اتصلت على الإسعاف ونُقلت للمستشفى والذي مكثت فيه أسبوع تقريباً قبل أن تخرج على قدميك وتعود كما كنت، عُدتَ للرجال والوجار والدلال، ولأحاديث لا متناهية البذخ والجمال!

من ناحيتي لم أغفرها ليوم السبت أبداً! وعلى ما يبدو فإنه كان يبادلني نفس الشعور، بل كان يوعدني بسبتٍ قادم، سبت أشد ظلمة وألم من سابقه! منذها وأنا في كل ليلة أدخل لبيت العائلة فأول ما أنظر إليه هو مكانك المفضل خلف “الوجار”، وكأنني أخاف أن أدخل ولا أجدك!

يا والدي….

بعد شهر تقريباً من وفاتك، فتحت الحقيبة الخلفية للسيارة فوجدت ما جعلني أتراجع ثلاث خطوات للخلف! وجدت “صديريتك” وثوبك وحذاءك والتي كنت ترتديهن عندما سقطت عند بوابة المستشفى! وقد أخذ المقص حقه من الصديرية والثوب وذلك لسرعة تخليصك منهما للتعجيل بإسعافك. كان المنظر صادماً لي، فقد أعاد كل شيء وكأنه حدث للتو! أغلقت الحقيبة وعدت لمنزلي وأنا لست أنا. تركت الحقيبة مغلقة لأكثر من شهرين، وبعدها لا أدري من الذي طلب مني التخلص منهما فأطعته بدون وعيٍ مني! إلى هذه اللحظة أشعر بغصة فقدي لهم!

بعد عدة أشهر وأنا أفتح أحد دروج مكتبي وجدت ثلاثة أشياء تخصك، لا أدري كيف وصلت إلي. وجدت مقصك الصغير والذي تستخدمه لتشذيب الشارب وملقط الشعر والختم! احتفظت بالختم في حرز عميق لا يعرف مكانه أحد، واستخدمت الملقط والمقص كما كنت تستخدمهما تماماً.

أول ما أبدأ فيه هو نزع الشعرة الوحيدة في الشامة التي تنام في خدي الأيمن، وهي الشامة التي ورثتها منك بنفس المكان ونفس الحجم! استخدم الملقط والمقص كما كنت تستخدمهما تماماً. استعيد رحلتي معك عندما كنت صغيراً وأنا أقف أمامك وأشاهدك تحاول ترتيب النافر من الشعر في وجهك الكريم، وأحاول أن أقلدك في مخيلتي. ولدي الصغير وبعد أكثر من ثلاثين عاماً رأيته يجلس أمامي وينظر لي بتركيز ويحاول أن يقلدني وأنا أحاول ترتيب النافر من الشعر، تماماً كما كنت أفعل وبنفس الحركات التي كنت أقوم بها وأنا في مثل سنّه! لا أدري من الذي قال: “إنما نحن صورة عن أباءنا”!

يا والدي…..

كل الرجال الموجودين عندك بالمجلس تبعوك واحداً أثر واحد، بعد أن تطاول عليهم الزمن في انتظار هذه الـ”شوي” أن تنتهي! متأكد بأنهم سيعذرونك وسيغفرون لك إخلافك بموعدك وإنه ليس بملكك!

يا والدي…

عشرون عاماً مرّت يا والدي لآخر مرة عانقت فيها نظرتي، نظرتك. عشرون عاماً وأنا في كل صباح استعيدها بصمت، وأتمنى لو واتتني القدرة على قراءتها والله!

يا والدي…

أشياء كثيرة لا استطيع التعبير عنها، وأشياء أكثر من الذي لا يُقال يا والدي! اعتذر لك أيها العظيم عن سوء لغتي، عن فشلي في التعبير، عن ضعف حرفي وعدم قدرته على حمل المعنى الذي تستحق.

يستوطنني الصمت هذه اللحظة كما كان يستوطنني في حضورك البهي! لا أقول إلا سامح الله “قطاة صمتي” وسامح الله من “استذارها”

يا والدي…

يموت في صدري الكلام جوعاً للمعنى الذي لا يستطيع أن يحمله، ولذلك فمن الخيرة لي أن أصمت هذه اللحظة!

أنا الذي من الصمت أتيت، وللصمت أعود!

الكاتب: aazizrowiliy

عابراً في مفازة الكلام، أحدو خلف نياق المعنى في التيه! aazizrowiliy@gmail.com

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

%d مدونون معجبون بهذه: