الإهداء:
إلى تلك البدوية التي خافت نفسها، ففرت هاربة من الحـ……!:
كيف نترك العطش يغتال أجمل أيامنا دون أن نعترض؟
في ليلة باردة من ليالي أرض الحماد الحزينة انتهى الماء عند “العرب”، ومورد الماء بعيد جداً والأرض موحشة، ومليئة بكل ما قد يُخيف الإنسان ويوقد حواسه ويجعل روحه على وجل من كل شيء! ولأن البقاء على هذا الحال يعني الموت بطريقة مؤلمة وإن كان بصورة مؤجلة، فقد تشجع أحدهم، ممن أحرقه اليباس وبدأ الموت يجيس في فيافي روحه على المغامرة للبحث عن الماء، فأخذ سلاحه وركب ذلوله واستجنب ثلاثة جمال ومعه سبعة “قِربْ” يكاد أن يقتلها اليباس أيضًا، ومشى الهوينا وهو “يهيجن” بصوتٍ شجي مليء باليأس والرجاء:
“وين المخاوي نبي نسري؟
نبي نروّيّ، قضى مانا”*
كان يستحث أهل “النَزلْ” أو “العرب” الذين يغطون بنومٍ عميق وترفرف فوقهم طيور الموت مالئة أسماعهم بأصواتٍ تأتيهم من أعماق أحلامهم الميتة، أصوات كانت تمنعهم من سماع أي أصوات أخرى من الممكن أن تعيدهم للحياة وتخلصهم من برزخهم السديمي! يستحثهم لعله يحظى برفقة تساعده في التخفيف من وعثاء الطريق ووحشته. فقد كان، عبر “هجينيته”، يطلب بصيغة رقيقة رفيقاً مؤنساً له في رحلته الطويلة لإنقاذ المئات من الأرواح النائمة في سكون هذه الليلة الباردة!
ذلك الـ”أحدهم” كان ممن استوطنه القلق والخوف والتساؤلات والبحث عن الحلم/ الحياة/ الحب/ الحرية. ولذلك أنجاه الله من تلك الطيور وما تفعله في البقية. وهو مشغول بالعطش/ الانتماء/ صيرورة المآل، فمنذ يومين لم يعد يأبه بالشمس التي يحرص على التمعن في غروبها كل مساء! قبل غياب شمس ذلك اليوم ذهب ذلك الـ”أحدهم” لأكبر رجال القبيلة عمراً، وهو ممن ذاق من الحياة ألذّها، وأكلت منه ألذّه، فشعرا بالانتصاف من بعضهما فتهادنا وتركا أمرهما للأقدار ولِما تُقدِّره! سأله عن أقرب موارد الماء تلك التي يجد فيها الماء متوافراً في مثل هذا الوقت، والأقرب لتلك الفيافي الحزينة!
قال له ذاك الذي يجادل الموت على صيغة تحفظ له ماء الوجه، أمام نفسه على الأقل: “لا ماء إلا في نجد! لا ماء إلا في نجد.. فضّعْ نجم الجدي على حاجبك الأيسر، وضّعْ القِبلة بين عينيك، وفي قلبك، وسِرّ ليلك، ولا يغرنّك طوله، فليل نجد طويل، طويلٍ جداً على من هو مثلك! ستجد غديراً كبيراً، عندما تبتسم لك الحياة، في نهاية طريقك، ولكن لن تجده إلا بعد أن يصمُّ سمعك صوت طيور القطا المتطايرة بعد أن أربكتها وهي نائمة على الأرض! عندها أنخ جمالك وستجد الماء تحتك فأملأ قِربك بالماء، وبعد أن تملأها أرجع في ليلتك تلك، ولا تنم مهما شعرت بالتعب والنعاس، لا تنمْ فإنك إن نمت، صحوت ولن تجد شيئاً!”
بعد غياب الشمس بساعة، تجوّل ذلك البدوي المُثقل بإرث بداوته وقبيلته وروحه في “النزل”، وهو يردد “هجينيته” باحثاً عمّن يرافقه في رحلته التي لم يكن على يقين بنتائجها، فرحلة جلب الماء/ الحياة قد تطول، فلابد له من رفقة صالحة/ مالحة! رفقة تُشعره بأنه ما زال على قيد “الحياة” بدلاً من ذلك الموت الذي بدأ ينبجس في فيافي الروح بخفرٍ بالغ، وكأنه يعتذر مما لابد منه إلا أن تُنقذه رفقة تعينه على هذا الطريق الطويل!
لم يسمعه أحد، أو هكذا ظن، ولم يُحب أن يرفع صوته أكثر خوفاً من إرباك المكان وأهله. ولذا شدّ خطام ذلوله، وبعصاه وجهها إلى تلك الجهة التي يظن بأنه سيجد عندها الماء/الحياة، وتبعته الجمال الثلاث المحملة بقِربها الست، بينما وضع القربة السابعة خلفه على مؤخرة الذلول.
كان الليل يقترب من منتصفه بهدوء وببطء مُريب وكأنه على وجل! عاد يهيجن مرة ثانية لينتصر على عطشه وهواجسه وخوفه، ليُسلّي نفسه بأنه لو خانه الجميع فصديقه الشعر لن يخونه:
وين المخاوي نبي نسري
نبي نروّيّ قضى مانا
أكمل ببيتٍ آخر يقدمه كقربان يشربه العطش ليمنحه الماء لاحقاً:
“يا ضيعة العمر يا أسري
ويا حظ موت يتقفانا”
بعد وقتٍ لا يعلمه، أتاه صوت من وسط الظلام، صوت أنثوي تستوطنه بحة أزلية، يتهادى بهدوءٍ عجيب، وكأن أحرفه السابحة في الهواء تتحسر على مفارقة تلك الشفتين الدافئتين! أرهف السمع لِما توهم أنه حلم في البداية، فسمع ذلك الصوت المتردد:
“أيا ولَد مطلبك عسري
راح أكثر العمر ما جانا”
توقف قليلاً، أدار بصره في الظلام فلم يشاهد حتى أطرافه! بذر نظراته في الظلام لعل قطرات ضوء تسقيه جسد ذلك الصوت القادم من المجهول، لم يرَ شيئاً. كرر فعلته وفي كل مرة تموت تلك البذور في لحظة وصولها للأرض!
تأوه، وغرق في صمته! تأوه مرة أخرى وبدأت شفاه روحه تتشقق! خاف ألا يقوى على الكلام فصرخ بصوتٍ لم يسمعه أحد سواه:
يا عطش روحي ويا كسري
ويا حزن عمرٍ تمثنانا
اقتربت صاحبة الصوت، أو هكذا خُيّل إليه، منه دون أن يستطيع تحديد مكانها بدقة فضلاً عن أن يرى ملامحها. تحادثا في الطريق فشعر بأن صوتها ببحته الجميلة ينبع منه الماء فيسقي روحه الذابلة، كانت قريبة جداً منه، ولكن لأن الظلام، بالنسبة له، كان دامساً فلم يشاهد منها شيئاً، فقط كان يسمع كلامها الآسر، و”ترزّم” نياقها، التي ترافقها، تلك المخلوقة من حنينٍ لا متناه الامتداد!
أخبرته بأنها مُذ خُلقت لم تبتل بالماء! تعجب فيما بينه وبين نفسه قائلاً: “وصوتها الذي ينبع منه الماء؟” عندما أنهى تساؤله، ضج المكان بصيحات طيور القطا: “قطا…قطا…قطا…قطا”. علم بأنه قد وصل للماء كما أخبره ذلك الرجل. عندها تشجّع وقال لها بأنه سيسقيها حتى ترتوي! وصلا الماء سوياً، وملأ قربهما بالماء، كانت لشدة قربها منه يشعر بأنفاسها تدفئ جسده البارد وبهمساتها تعيد دوزنة أيامه وهو يسمع صوتها ولا يراها! صوتها والذي تسكنه بحة آسرة، بحة تسافر به إلى جذوره الأولى، إلى أجداده البداة الذين كتبوا سيرتهم على الأرض بدماء قلوبهم وآهات أرواحهم! قالت له، أشرب من الماء فشفاهك ينبجس منها الدم! لا شعورياً رفع أصابعه بسرعة إلى شفتيه فوجدها دافئة، تحسس أصابعه فشعر بسائل كأن به لزوجة في أطرافها، إذن هو الدم فعلاً! كيف تراه ولا يراها؟ هذا السؤال الذي عنّ في خاطره وخاف أن يُريقه على لسانه!
حاول أن يقول شيئاً يدل على أنه يراها فلم يدرِ ما يقول! سكت للحظات، وعندما خُيل إليه بأنه يسمع صوت حركة الأساور في يدها، تشجّع وقال، انتبهي ليدك! ردت قائلة بأنفاسٍ لاهثة وبنبرة متهدجة وخائفة: “لا يد لي، لي جناح واحد ومكسور، ومع كسره فهو يرسف في الأغلال، كما أنني فقدت ظهري مُذ زمن لا أعلمه”! تراجع عمّا همّ به، تراجع أكثر عمّا فكّر به! استكان للصمت، أيقن بأن لن ينجيه من نفسه إلا الصمت!
عندما انتهوا من تعبئة القرب بالماء عادا سوياً، كانت قريبة منه إلى درجة يكاد يشعر بأنفاسها اللاهثة تعبث بعارضه الخفيف. تحدثا لوقتٍ لا يعلمه أيضاً، وفي لحظة شعر بأنه غاب عن الوعي قليلاً، حدث لها شيء لم يعلمه، لكنه شعر به، فقد فتحت له في لحظة حب باب قلبها فغمر بصره شعاع أضاءت له فيافي روحه الخربة وبدأت في الإزهار وكأن أمطار الدنيا قد أروتها في ومضة وسم! وفي أقل من لمح البصر شعرت بأنها قد أخطأت، مع أن فعلها كان أصوب فعل فعلته مُذ سنوات طوال، فأغلقت باب قلبها وهو يئن بحثاً عن الحلم/ الحياة/ الحب/ الحرية/ الحنو!
لم تمهله ولو لثوانٍ معدودة، فقد كان يريد أن يقول لها سأكون لك اليد التي تُمسكين بها الحياة، سأكون لك الجناح الذي تسافرين فيه إلى الحلم، سأكون لك الظهر الذي لن يخونك أبداً، القلب الذي يمنحك الحب والحنو، لكنها لم تمنحه الفرصة لأي شيء! تبخرت كسراب ظهيرة غطته غيمة عابرة! شعر بالرعب يتسربله!
عرف بأنه ميّت لا محالة إن بقي مكانه ولم يتقدم للإمساك بها! رأته وهو يهم بالتحرك تجاهها! قالت له بصوت مليء بالموت، الموت الذي كان ينتجه وهم طويل تولّد داخلها دون أن تنتبه له: “لا أحد لي سواك، لكني لست لنفسي”، أكملت: “أحياناً …….”، وسقطت في جُب توهماتها دون أن تنتبه أيضاً، واختفت! آخر ما سمع من تهويماتها:
“أيا ولد، وحدتي “أسَري”
هِنّ كبّلّني عن “أحيانا””
كان يريد أن يُنقذها من توهماتها، من يقيناتها الكاذبة، يريد أن يجعلها تشاهد يديها وأن تستشعر وجود ظهرها، ولكنها لم تمنحه الفرصة! كانت، ولأنها ابنة الصحراء، دائماً “متذيّرة”، تخاف من كل شيء! ساعد في ذلك كله، الوهم الذي يتسربلها، الوهم الذي يقوم عامداً بحجب الحقيقة عنها بخلط ما هو حقيقي بما هو مزيف من الأشياء، حتى تصبح الرؤية لديها ضبابية لا تسمح بالحكم والاختيار بصورة واضحة! إنه الوهم الذي صنع وحدتها، الوهم الذي أسرها وقيدها بقيودٍ غير مرئية!
أرسل آهته الأخيرة خلفها، كنداء استغاثة:
أصير لك موطن وجسري
لأحلام عمرٍ تعدانا!
بقي في مكانه لعمرٍ لا يعلمه، وعندما شعر بالعطش خلفه! العطش الذي يحترق داخله! بشفاهه التي أصبحت منبع لنهرٍ أحمر قانٍ يتبخر لحظة خروجه! علم بفطرته بأنه لا ماء في الروح، ولذا فقد الماء معنى الماء!
ألتفت خلفه بحثاً عن جِماله الثلاث وأدهشه ما رأى! كانت القِرب السبعة تتحول إلى عشرات من أسراب القطا البيضاء وهي تصيح: “قطا…. قطا” وتمنح الفضاء حياة مستعارة قبل أن تختفي في السماء ويأكلها الظلام! وقف لوهلة وبصره معلق في السماء السوداء والتي لا يُبدد سوادها سوى أسراب القطا البيضاء والتي لا يلبث أن يأكلها الظلام لاحقاً. عندما عاد ببصره للأرض والتفت للمرة الثانية للخلف صُدم من منظر جِماله الثلاث وهي تتحول إلى شيء كأنه الهُلام والذي ما لبث أن أمتصه الظلام، ذلك الظلام الذي اغتال بياض أسراب القطا، فهمهم بصوتٍ يسكنه الموت للمرة الأخيرة:
قلبي أنا موسّرنّ وسَرْي
ودّي لو العمر يتنانا!
أنحنى بصدره على ظهر ذلوله كي تشعر بقربه ولا تخونه، وسار ليله كله، وكلما خُيّل إليه بأن الفجر قد أوشك، أتت سحابة سوداء فزادت ثوب الليل، ليلاً طولاً! عندها تيقن للمرة الأولى بأن لا يقين يتلبسه! لذا وجّه ذلوله تجاه مفازة الحياة، حيث لا جهة، لا وقت، فهي الوحيدة التي ستتفاهم مع موته الذي يجادلها على صيغة تحفظ له ماء الوجه، وتمنحه الـ”لا موت” وتحتمل صمته! مشى لوقتٍ لا يعلمه. لم يعد يعنيه الوقت وتبدلاته. فقد فقَد الوقت، معنى الوقت، كما فقد الماء، معنى الماء! كان كل ما يعنيه هو أن يمشي ويمشي فقط.
يراوده أمل في أن تنبجس أمامه فجأة، أو يلتفت يميناً أو يساراً ليجدها بجانبه وهي تهمس له ببحتها الآسرة: “أنا معك، أنا لك”! يعاتب نفسه على هذا الأمل الذي لا “أمل” فيه، ويكمل مشيه، فهو يرى بأن وصوله هو موته، لذا فهو يمشي لكيلا يصل!
نعم، يمشي لكيلا يصل…..!
*البيت الأول فقط من هجينية قديمة لشاعر رويلي قديم لا أعرف اسمه.