عـــطــــش…!

الإهداء:

إلى تلك البدوية التي خافت نفسها، ففرت هاربة من الحـ……!:

كيف نترك العطش يغتال أجمل أيامنا دون أن نعترض؟

في ليلة باردة من ليالي أرض الحماد الحزينة انتهى الماء عند “العرب”، ومورد الماء بعيد جداً والأرض موحشة، ومليئة بكل ما قد يُخيف الإنسان ويوقد حواسه ويجعل روحه على وجل من كل شيء! ولأن البقاء على هذا الحال يعني الموت بطريقة مؤلمة وإن كان بصورة مؤجلة، فقد تشجع أحدهم، ممن أحرقه اليباس وبدأ الموت يجيس في فيافي روحه على المغامرة للبحث عن الماء، فأخذ سلاحه وركب ذلوله واستجنب ثلاثة جمال ومعه سبعة “قِربْ” يكاد أن يقتلها اليباس أيضًا، ومشى الهوينا وهو “يهيجن” بصوتٍ شجي مليء باليأس والرجاء:

“وين المخاوي نبي نسري؟

نبي نروّيّ، قضى مانا”*

كان يستحث أهل “النَزلْ” أو “العرب” الذين يغطون بنومٍ عميق وترفرف فوقهم طيور الموت مالئة أسماعهم بأصواتٍ تأتيهم من أعماق أحلامهم الميتة، أصوات كانت تمنعهم من سماع أي أصوات أخرى من الممكن أن تعيدهم للحياة وتخلصهم من برزخهم السديمي! يستحثهم لعله يحظى برفقة تساعده في التخفيف من وعثاء الطريق ووحشته. فقد كان، عبر “هجينيته”، يطلب بصيغة رقيقة رفيقاً مؤنساً له في رحلته الطويلة لإنقاذ المئات من الأرواح النائمة في سكون هذه الليلة الباردة!

ذلك الـ”أحدهم” كان ممن استوطنه القلق والخوف والتساؤلات والبحث عن الحلم/ الحياة/ الحب/ الحرية. ولذلك أنجاه الله من تلك الطيور وما تفعله في البقية. وهو مشغول بالعطش/ الانتماء/ صيرورة المآل، فمنذ يومين لم يعد يأبه بالشمس التي يحرص على التمعن في غروبها كل مساء! قبل غياب شمس ذلك اليوم ذهب ذلك الـ”أحدهم” لأكبر رجال القبيلة عمراً، وهو ممن ذاق من الحياة ألذّها، وأكلت منه ألذّه، فشعرا بالانتصاف من بعضهما فتهادنا وتركا أمرهما للأقدار ولِما تُقدِّره! سأله عن أقرب موارد الماء تلك التي يجد فيها الماء متوافراً في مثل هذا الوقت، والأقرب لتلك الفيافي الحزينة!

قال له ذاك الذي يجادل الموت على صيغة تحفظ له ماء الوجه، أمام نفسه على الأقل: “لا ماء إلا في نجد! لا ماء إلا في نجد.. فضّعْ نجم الجدي على حاجبك الأيسر، وضّعْ القِبلة بين عينيك، وفي قلبك، وسِرّ ليلك، ولا يغرنّك طوله، فليل نجد طويل، طويلٍ جداً على من هو مثلك! ستجد غديراً كبيراً، عندما تبتسم لك الحياة، في نهاية طريقك، ولكن لن تجده إلا بعد أن يصمُّ سمعك صوت طيور القطا المتطايرة بعد أن أربكتها وهي نائمة على الأرض! عندها أنخ جمالك وستجد الماء تحتك فأملأ قِربك بالماء، وبعد أن تملأها أرجع في ليلتك تلك، ولا تنم مهما شعرت بالتعب والنعاس، لا تنمْ فإنك إن نمت، صحوت ولن تجد شيئاً!”

بعد غياب الشمس بساعة، تجوّل ذلك البدوي المُثقل بإرث بداوته وقبيلته وروحه في “النزل”، وهو يردد “هجينيته” باحثاً عمّن يرافقه في رحلته التي لم يكن على يقين بنتائجها، فرحلة جلب الماء/ الحياة قد تطول، فلابد له من رفقة صالحة/ مالحة! رفقة تُشعره بأنه ما زال على قيد “الحياة” بدلاً من ذلك الموت الذي بدأ ينبجس في فيافي الروح بخفرٍ بالغ، وكأنه يعتذر مما لابد منه إلا أن تُنقذه رفقة تعينه على هذا الطريق الطويل!

لم يسمعه أحد، أو هكذا ظن، ولم يُحب أن يرفع صوته أكثر خوفاً من إرباك المكان وأهله. ولذا شدّ خطام ذلوله، وبعصاه وجهها إلى تلك الجهة التي يظن بأنه سيجد عندها الماء/الحياة، وتبعته الجمال الثلاث المحملة بقِربها الست، بينما وضع القربة السابعة خلفه على مؤخرة الذلول.

كان الليل يقترب من منتصفه بهدوء وببطء مُريب وكأنه على وجل! عاد يهيجن مرة ثانية لينتصر على عطشه وهواجسه وخوفه، ليُسلّي نفسه بأنه لو خانه الجميع فصديقه الشعر لن يخونه:

وين المخاوي نبي نسري

نبي نروّيّ قضى مانا

أكمل ببيتٍ آخر يقدمه كقربان يشربه العطش ليمنحه الماء لاحقاً:

“يا ضيعة العمر يا أسري

ويا حظ موت يتقفانا”

بعد وقتٍ لا يعلمه، أتاه صوت من وسط الظلام، صوت أنثوي تستوطنه بحة أزلية، يتهادى بهدوءٍ عجيب، وكأن أحرفه السابحة في الهواء تتحسر على مفارقة تلك الشفتين الدافئتين! أرهف السمع لِما توهم أنه حلم في البداية، فسمع ذلك الصوت المتردد:

“أيا ولَد مطلبك عسري

راح أكثر العمر ما جانا”

توقف قليلاً، أدار بصره في الظلام فلم يشاهد حتى أطرافه! بذر نظراته في الظلام لعل قطرات ضوء تسقيه جسد ذلك الصوت القادم من المجهول، لم يرَ شيئاً. كرر فعلته وفي كل مرة تموت تلك البذور في لحظة وصولها للأرض!

تأوه، وغرق في صمته! تأوه مرة أخرى وبدأت شفاه روحه تتشقق! خاف ألا يقوى على الكلام فصرخ بصوتٍ لم يسمعه أحد سواه:

يا عطش روحي ويا كسري

ويا حزن عمرٍ تمثنانا

اقتربت صاحبة الصوت، أو هكذا خُيّل إليه، منه دون أن يستطيع تحديد مكانها بدقة فضلاً عن أن يرى ملامحها. تحادثا في الطريق فشعر بأن صوتها ببحته الجميلة ينبع منه الماء فيسقي روحه الذابلة، كانت قريبة جداً منه، ولكن لأن الظلام، بالنسبة له، كان دامساً فلم يشاهد منها شيئاً، فقط كان يسمع كلامها الآسر، و”ترزّم” نياقها، التي ترافقها، تلك المخلوقة من حنينٍ لا متناه الامتداد!

أخبرته بأنها مُذ خُلقت لم تبتل بالماء! تعجب فيما بينه وبين نفسه قائلاً: “وصوتها الذي ينبع منه الماء؟” عندما أنهى تساؤله، ضج المكان بصيحات طيور القطا: “قطا…قطا…قطا…قطا”. علم بأنه قد وصل للماء كما أخبره ذلك الرجل. عندها تشجّع وقال لها بأنه سيسقيها حتى ترتوي! وصلا الماء سوياً، وملأ قربهما بالماء، كانت لشدة قربها منه يشعر بأنفاسها تدفئ جسده البارد وبهمساتها تعيد دوزنة أيامه وهو يسمع صوتها ولا يراها! صوتها والذي تسكنه بحة آسرة، بحة تسافر به إلى جذوره الأولى، إلى أجداده البداة الذين كتبوا سيرتهم على الأرض بدماء قلوبهم وآهات أرواحهم! قالت له، أشرب من الماء فشفاهك ينبجس منها الدم! لا شعورياً رفع أصابعه بسرعة إلى شفتيه فوجدها دافئة، تحسس أصابعه فشعر بسائل كأن به لزوجة في أطرافها، إذن هو الدم فعلاً! كيف تراه ولا يراها؟ هذا السؤال الذي عنّ في خاطره وخاف أن يُريقه على لسانه!

حاول أن يقول شيئاً يدل على أنه يراها فلم يدرِ ما يقول! سكت للحظات، وعندما خُيل إليه بأنه يسمع صوت حركة الأساور في يدها، تشجّع وقال، انتبهي ليدك! ردت قائلة بأنفاسٍ لاهثة وبنبرة متهدجة وخائفة: “لا يد لي، لي جناح واحد ومكسور، ومع كسره فهو يرسف في الأغلال، كما أنني فقدت ظهري مُذ زمن لا أعلمه”! تراجع عمّا همّ به، تراجع أكثر عمّا فكّر به! استكان للصمت، أيقن بأن لن ينجيه من نفسه إلا الصمت!

عندما انتهوا من تعبئة القرب بالماء عادا سوياً، كانت قريبة منه إلى درجة يكاد يشعر بأنفاسها اللاهثة تعبث بعارضه الخفيف. تحدثا لوقتٍ لا يعلمه أيضاً، وفي لحظة شعر بأنه غاب عن الوعي قليلاً، حدث لها شيء لم يعلمه، لكنه شعر به، فقد فتحت له في لحظة حب باب قلبها فغمر بصره شعاع أضاءت له فيافي روحه الخربة وبدأت في الإزهار وكأن أمطار الدنيا قد أروتها في ومضة وسم! وفي أقل من لمح البصر شعرت بأنها قد أخطأت، مع أن فعلها كان أصوب فعل فعلته مُذ سنوات طوال، فأغلقت باب قلبها وهو يئن بحثاً عن الحلم/ الحياة/ الحب/ الحرية/ الحنو!

لم تمهله ولو لثوانٍ معدودة، فقد كان يريد أن يقول لها سأكون لك اليد التي تُمسكين بها الحياة، سأكون لك الجناح الذي تسافرين فيه إلى الحلم، سأكون لك الظهر الذي لن يخونك أبداً، القلب الذي يمنحك الحب والحنو، لكنها لم تمنحه الفرصة لأي شيء! تبخرت كسراب ظهيرة غطته غيمة عابرة! شعر بالرعب يتسربله!

عرف بأنه ميّت لا محالة إن بقي مكانه ولم يتقدم للإمساك بها! رأته وهو يهم بالتحرك تجاهها! قالت له بصوت مليء بالموت، الموت الذي كان ينتجه وهم طويل تولّد داخلها دون أن تنتبه له: “لا أحد لي سواك، لكني لست لنفسي”، أكملت: “أحياناً …….”، وسقطت في جُب توهماتها دون أن تنتبه أيضاً، واختفت! آخر ما سمع من تهويماتها:

“أيا ولد، وحدتي “أسَري”

هِنّ كبّلّني عن “أحيانا””

كان يريد أن يُنقذها من توهماتها، من يقيناتها الكاذبة، يريد أن يجعلها تشاهد يديها وأن تستشعر وجود ظهرها، ولكنها لم تمنحه الفرصة! كانت، ولأنها ابنة الصحراء، دائماً “متذيّرة”، تخاف من كل شيء! ساعد في ذلك كله، الوهم الذي يتسربلها، الوهم الذي يقوم عامداً بحجب الحقيقة عنها بخلط ما هو حقيقي بما هو مزيف من الأشياء، حتى تصبح الرؤية لديها ضبابية لا تسمح بالحكم والاختيار بصورة واضحة! إنه الوهم الذي صنع وحدتها، الوهم الذي أسرها وقيدها بقيودٍ غير مرئية!

أرسل آهته الأخيرة خلفها، كنداء استغاثة:

أصير لك موطن وجسري

لأحلام عمرٍ تعدانا!

بقي في مكانه لعمرٍ لا يعلمه، وعندما شعر بالعطش خلفه! العطش الذي يحترق داخله! بشفاهه التي أصبحت منبع لنهرٍ أحمر قانٍ يتبخر لحظة خروجه! علم بفطرته بأنه لا ماء في الروح، ولذا فقد الماء معنى الماء!

ألتفت خلفه بحثاً عن جِماله الثلاث وأدهشه ما رأى! كانت القِرب السبعة تتحول إلى عشرات من أسراب القطا البيضاء وهي تصيح: “قطا…. قطا” وتمنح الفضاء حياة مستعارة قبل أن تختفي في السماء ويأكلها الظلام! وقف لوهلة وبصره معلق في السماء السوداء والتي لا يُبدد سوادها سوى أسراب القطا البيضاء والتي لا يلبث أن يأكلها الظلام لاحقاً. عندما عاد ببصره للأرض والتفت للمرة الثانية للخلف صُدم من منظر جِماله الثلاث وهي تتحول إلى شيء كأنه الهُلام والذي ما لبث أن أمتصه الظلام، ذلك الظلام الذي اغتال بياض أسراب القطا، فهمهم بصوتٍ يسكنه الموت للمرة الأخيرة:

قلبي أنا موسّرنّ وسَرْي

ودّي لو العمر يتنانا!

أنحنى بصدره على ظهر ذلوله كي تشعر بقربه ولا تخونه، وسار ليله كله، وكلما خُيّل إليه بأن الفجر قد أوشك، أتت سحابة سوداء فزادت ثوب الليل، ليلاً طولاً! عندها تيقن للمرة الأولى بأن لا يقين يتلبسه! لذا وجّه ذلوله تجاه مفازة الحياة، حيث لا جهة، لا وقت، فهي الوحيدة التي ستتفاهم مع موته الذي يجادلها على صيغة تحفظ له ماء الوجه، وتمنحه الـ”لا موت” وتحتمل صمته! مشى لوقتٍ لا يعلمه. لم يعد يعنيه الوقت وتبدلاته. فقد فقَد الوقت، معنى الوقت، كما فقد الماء، معنى الماء! كان كل ما يعنيه هو أن يمشي ويمشي فقط.

يراوده أمل في أن تنبجس أمامه فجأة، أو يلتفت يميناً أو يساراً ليجدها بجانبه وهي تهمس له ببحتها الآسرة: “أنا معك، أنا لك”! يعاتب نفسه على هذا الأمل الذي لا “أمل” فيه، ويكمل مشيه، فهو يرى بأن وصوله هو موته، لذا فهو يمشي لكيلا يصل!

نعم، يمشي لكيلا يصل…..!

*البيت الأول فقط من هجينية قديمة لشاعر رويلي قديم لا أعرف اسمه.


	

تائه في مفازة الأعراف

تائه في مفازة الأعراف

اسمه نواف! هكذا خٌلق فجأة وهكذا عرف نفسه فجأة! كان شاباً وسيماً أنيقاً، عاش في المخيلة لأعوامٍ طويلة يمارس لهوه ومغامراته، يتصارع مع فشله ويستمتع في نجاحاته! كل ما يمكن أن يخطر على بال شاب من صفات جميلة موجود فيه وكأنما خُلق كما يشاء! ومع ذلك كان نزقاً لا يعرف للصبر معنى، متهوراً لا ينتبه لعواقب الأمور، هشاً من الداخل، فلربما هزمه حدث عاطفي بسيط فيجعله يتساقط من الداخل تساقطاً مريعاً وقاتلاً! لم يعجبه الوضع الذي يعيشه كثيراً برغم من كل صفات الجمال التي يمتلكها وأولها ملائكيته التي يُحسد عليها! كان يريد حياة أخرى لم يخلق لها، حياة تشبه حياة خالقه أو تتماها معها بطريقة أو بأخرى!

كانت مأساته الكبرى، حسبما يظن، تكمن في أنه لم يستطع الزواج بالفتاة التي يحبها بالرغم من كل ما يملك من قوة مجتمعية وصفات مادية ومعنوية تؤهله بأن يحصل على ما يريد دائماً وأبداً! وربما لذلك أو لأسباب أخرى كان دائماً ما يشعر بأن هناك ما ينقصه. يؤذيه نقصانه وعجزه، يقتله مجازه! ويفكر في حقيقته فتخيفه أقداره التي تُنسج له في تلك المخيلة التي لا يستطيع معرفة ماهيتها ونوعيتها والتي دائماً ما يحاول الهرب من التفكير فيها. الأسوأ من هذا كله أنه منذ مدة طويلة وحياته واقفة لا حركة فيها فلم تجرِ له أحداث ترضيه فهو إما يستوطنه السكون وإما يجتر الأحداث القديمة التي عاشها هو وأسلافه!ق

 يشتم المخيلة كثيراً، تلك المخيلة التي أُصيبت بتبلد قاتل لا يعرف أسبابه، ولكنه في نهاية الأمر تتراجع حدة شتائمه فهو يعلم بأن سعادته، بل ومصيره بالكامل، مرتبط بتلك المخيلة! يؤذيه أكثر تشتته في تلك المخيلة بين أحداث كثيرة وكبيرة كان يجب عليه أن يخوضها أو يمر بها، لا يقلقه التعامل مع تلك الأحداث فهو أمر بسيط، ولكن يقلقه هو هذا السكون الذي يعلقه على مقاصل الانتظار في انتظار خالقه وما يجود عليه به من أحداث وحياة!

زيادة الوعي الشديد وجرعاته المتتالية والتي كان خالقه يحقنها في ليل نهار في زمن سابق جعلت من نواف يتشجع كثيراً محاولاً التحليق خارجاً عن السرب محاولاً بذلك أن يمسك بزمام نفسه ليعيش حياته التي يريد لا كما يُراد له!

في لحظة سهو، ألتفت نواف للخلف فرأى الحياة على مرأى حلم أو هكذا ظن! تنهد كثيراً، همهم قائلاً: “هذا ما كنت أبحث عنه”! بقي محافظاً على حلمه طويلاً أو هكذا ظن فهو لا يعرف حقيقة الزمن الفيزيائي أصلاً وما يجري فيه! كانت الحياة تنبعث من شرفة الأمل والتي لا يعلم متى وجدت، بقي يتتبع تلك الشرفة ويراقب من فيها ويحاول أن يسترق السمع للأحاديث التي قد تدور فيها فقلبه قد تعلق بها وما يتخيله بأنه حلم لم يفكر فيه من قبل قد بدا وكأنه قاب قوسين أو أدنى!

مرت عليه أيام لا يستطيع قياس مسارها الزمني، كان يسترق السمع برهافة للأحاديث التي تدور في الشرفة، عدة مرات سمع جزءًا من حكايته أو حكاية أهله وهذا ما جعله يداوم على الجلوس قريباً من تلك الشرفة، بل أنه أتخذ له فراشاً تحت تلك الشرفة وأصبح هذا الفراش مكانه الوحيد الذي لا يفارقه أبداً!

وفجأة، وفي ليلة ديسمبرية باردة وعندما كان نائماً، سمع حديثاً عابراً وهامساً ينطلق من تلك الشرفة الوحيدة التي رآها في حياته، سمع اسمه يُنطق بهمسة جميلة. لم يفهم الحديث بمجمله، كانت الرياح شديدة وباردة جداً وأكثر الكلام تأخذه تلك الرياح قبل أن يستقر في إذن نواف. ولكن في لحظة سكون مؤقت لتلك الرياح سمع شيئاً غريباً لم يسمعه منذ أن وجد تلك الشرفة، كان حديثاً طويلاً وجميلاً، ولكن لم يرسخ في ذاكرته إلا تنهيدة دافئة انتهت بعبارة مربكة: “حتى أنا والله”!

تشتت نواف، تفتت نواف، انتبه بأن عمره الماضي لم يكن عمراً أصلاً وأن المخيلة ليست وطناً يليق بمن هو مثله وأنه يحتاج للحياة التي رآها عندما ألتفت للخلف! عندما حاول العودة للخلف، إلى ما رأى بدأت روحه بالتلاشي، جسده بالذوبان، أفكاره بالتسامي! كان في كل خطوة يخطوها يرى بأنه يسير للموت، الموت الذي كان يتمناه، ولكنه لم يتفهم كنهه! فهم أخيراً بأنه إذا أراد الخروج فعليه أن يتخلص من حياته، من كونه محض خيال ليعود جنيناً حقيقياً يولد في زمن آخر!

أخافه مجرد التفكير في معصية خالقه، لكن من ناحية أخرى كان قد فاض به صبره من إهمال ذلك الخالق له لوقتٍ طويل لا يعرف مدته! كان القرار صعباً عليه، ولكنه رأى بأنه النجاة من سجنه الذي سُجن فيه بغير إرادته! هكذا ظن، وإن كانت الحقيقة لا تعدو كونها تتلخص في ماهية تلك الحياة المُتمناه التي فتنته عندما شاهدها لأول مرة، فتنته كما فتنت غيره!

عاد جنيناً، غادر المخيلة إلى غير رجعة أو هكذا تمنى أو ظن، وعبر إلى مفازة الأعراف! فرح كثيراً في الأعراف في أيامه الأوّلْ. كان يظن بأن هدوء الأعراف، ووحشته وسكينته وخوفه مسألة قابلة للاحتمال باعتبارها فترة مؤقتة لا أكثر! مفازة الأعراف خافت أيضاً فهي لم تعتد أن يعبر بها مثل نواف عوضاً على أن يستوطنها لفترة لا تعلمها! رضي نواف بالأمر رجاءً بالقادم الجميل المُشتهى!

قضى نواف وقته الذي لا يشعر به يبذر الأمنيات التي يريد أن يعيشها، ولكنه لا يعرف ما هي الأمنية المشتهاة فهو لا يعرف شيئاً أصلاً، ومن كان مسئولاً عنه لم يعد يأبه به كثيراً، تركه معلقاً في الفراغ!

مع مرور الأيام التي لا يعيها على وجه اليقين بدأ وكأنه يشعر بعبثية قراره وتسرعه فيه. فالشرفة، التي وجدها قد انتقلت معه للمفازة بدون أن يجد تفسيراً لذلك الانتقال، قد بنت عناكب الغياب بيوتها عليها ولم يعد يستطيع أن يسترق منها حديثاً واحداً باستثناء أحاديث متفرقة لا يفهم منها حرفاً واحداً! والحياة التي لفتت انتباهه لم يعد يشاهدها لا لسبب سوى أن الأعراف مُحاطة بأسوار لا متناهية الارتفاع! طال انتظاره أو هكذا ظن.

في ليلة باردة تسرب إليه صوت لازال يستذكره، بل يعرفه جيداً، وإن كان ممتلئاً بالوهن والدمع، ويعرف نبرته: “والله عجزت”! آه العجز موت! هذا الشيء حعايشه كثيراً في احد المخيلة وانتصر عليه كل مرة، ولكنه وقتها كان فارساً يمتلك خياراته وأسلحته أما الآن وهو في الأعراف وهو في شكل جنين هلامي لا حول ولا قوة له. كيف يفعل؟ وهو يعايشه منذ أن دخل إلى هذه المفازة، ولكنه كان يعتذر لنفسه بأنه لا إرادة له فلا سبيل له الآن إلا بالصبر والانتظار لعل الأيام تعطيه حريته المُشتهاة!

بقي يرتجف في مكانه، الحياة لم تأت والأعراف بدأت تضيق عليه من أطرافها أو هكذا توهم! حاول الالتفات للباب الذي عبر منه منذ زمن، أصبحت المخيلة التي هرب منها حلماً لا يستطيع الوصول إليه فقد ألتفت ناحيتها، ولكن لا ويا للصدمة لم يجد شيئاً! كانت أسوار الأعراف مصمتة ولا متناهية الامتداد. هجم على المكان الذي ظنه الباب الذي عبر منه، لكنه لم يجد شيئاً! قطعة من السور اللامتناهي! حاول أن يصرخ، أن يتحدث، يسأل، يتوسل، ولكنه لم يستطع! لم يستطع لأنه جنين هلامي لا وجه له، لا فم له، لا صوت له! فقط روح، روح صغيرة جداً كانت تنفخ فيه قليلاً ومن ثم تخبو، روح فقط تبقيه على قيد الوعي لا أكثر!

كان يقتله الندم وهو لا يستطيع التعامل مع عجزه وهلاميته وقدرته المعدومة، وخاصة عندما يتذكر كونه شاباً وسيماً ومحبوباً، يعيش خيالاً جميلاً، خيالاً كان يغني عن واقع بئيس كواقعه الذي يعيشه الآن! حاول التخلص من هلاميته، من وضعه “الجنيني” الذي سجن نفسه فيه لكنه لم يستطع، بحث عن ثوب نواف الذي خلعه لكنه تذكر أنه قد خلعه خارج المفازة. مر من عمره زمن لا يعيه وفي ليلة باردة كانت ساكنة بدون أي رياح وإن كان بردها يقتل الروح بقسوة سمع حديثاً متقطعاً ومنهكاً وحزيناً من داخل تلك الشرفة! مع بداية الحديث بدأت الرياح تزمجر وتبعثر كل شيء في المفازة لذلك التصق بكل ما يملك بالجدار الذي يحمل الشرفة. انتهى الحديث سريعاً ولم يسمع منه سوى “طيب، نوفمبر”!

تساءل ما بينه وبين نفسه: “وما نوفمبر؟” لكنه لم يجد جواباً. عادت الشرفة لهدوئها فلم يعد يسمع فيها أي حركة. عاد من جديد يدور حول الأسوار اللامتناهية الامتداد للمفازة من الداخل ولا يجد فيها مخرجاً واحداً أو حتى نافذة صغيرة تأتيه بضوء بغض النظر عن مصدره! كانت الرحمة التي مُنحت له تكمن في هلاميته وخفته، فحركته سريعة، بل لا متناهية السرعة فلا جسد يثقله وبالتالي فلا أقدام تؤلمه من طول المسير. كان ينتقل من مكان إلى آخر بمجرد أن ينوي القيام بالانتقال، ولكنه انتقال لا معنى له!

بعد فترة أوحي إليه ولا يدري ما مصدر ذلك الوحي بأن حياته تكمن في آخر جملة سمعها تأتيه من تلك الشرفة و………….!

………………………..

“عشرين عام كنها يوم أو دون” محاولة اعتذار متأخرة من ابنٍ عاق!

26/ 1/ 1424

26/ 1/ 1444

عشرين عامٍ كنها يوم أو دون

عشرين عام والسنين استدارت

وفـ ليلة صرخت في لحظة جنون

وقطاة صمتي من فزعها استذارت

وطارت أسراب القطا تسجع لحون

ولا انتبهت بغفلتي، شلون طارت؟

تسجع بسماء الذاكرة بلحن موزون

ودارت بفيافي الذاكرة، ثم حارت

وطارت ومرت لها غصون وغصون

غصون صبرٍ من قهرها استجارت:

قطا قطا، والصمت ظالم وملعون

قطا قطا، وصروف الأيام دارت

قطا قطا، والدمع بالجفن مسجون

قطا قطا، وجروح الأيام جارت

قطا قطا، ويا ضيعة وشلون:

قفّت بي الأيام ثم استخارت…؟

            …..

يا بوي أنا من رحت غنيت محزون

وحيران حزني بالمعاليق ثارت

حنّت، حنين الخِلج ثم سالت عيون

وناديت أنا لشفاي، وبالعهد بارت!

ورجعت أبي منّك ولو شوية ظنون

أهدّيّ بها روحٍ من الفقد خارت

ولقيت ثلاث أشيا مليانة شجون

ورجعت أسأل عنّها شلون صارت؟

مقص مع ملقاط، والشعَر مغبون

وختمك ينادي وفرحتي به توارت

بالمقص قصيت حلمي عن الدون

وبملقاطك ألقط به هموم تبارت

وبختمك ختمت الصمت وسالت عيون

وقطاة صمتي من فزعها استذارت!

………….

٢٦/ ١/ ١٤٢٤هـ

٢٩/ ٣/ ٢٠٠٣

كعادته دائماً، يستيقظ لصلاة الفجر بواسطة صوت المؤذن في المسجد الذي بجواره، يصلى الفجر، يقرأ ورده من القرآن، يتناول قهوته المصنوعة على نار الحطب في بيت الشعر المسجون داخل سور الفيلا التي تسكنها العائلة، وهو يستمع إلى لحنٍ جنائزي مؤذٍ يعزفه قارئ النشرة الإخبارية من هيئة الإذاعة البريطانية في الساعة السابعة صباحاً! تدمير القصر الجمهوري، احتلال المناطق القريبة من بغداد، الهجوم على مطار بغداد الدولي! هذه أبرز عناوين الأخبار التي كان يهزّ رأسه بحزنٍ بالغ وهو يستمع لها!

أثناء إعداد القهوة يبدأ توافد الرجال من الجيران والجماعة والذين يستجيبون لنداء “النجر” وهو يدعوهم كل صباح مرحباً بهم كعادته كل فجر! يتناول فطوره مع الموجودين ويبقون في مجلسهم وتدور بينهم الأحاديث القديمة واستعادة حياتهم الذاهبة والتي غالباً ما تبدأ بـ: “رحلنا…، نزلنا….، قيّضنا….، ربّعنا” إلى صلاة الظهر في غالب أيامهم!

كان ذلك ديدنه فيما سبق من أيامه، ككل يوم، لكن في يوم السبت ٢٦/ ١/ ١٤٢٤هـ الموافق ٢٩ مارس ٢٠٠٣ حدث شيء خارج عن المألوف! كان ابنه الأقرب إليه عبدالله إذا أراد الذهاب للعمل يسأله قبل أن يذهب هل يحتاج أو يريد شيئاً معيناً؟ في ذلك اليوم قال له بأنه يشعر بألم في كتفه الأيسر، ولأنه كان قد نجا من جلطة في القلب قبل أربعة سنوات وأشهر، طلب منه ابنه أن يأخذه للمستشفى للاطمئنان.

في الساعة 8:05 ذهب مع ابنه القريب منه للاطمئنان على الألم. عندما همّ بالخروج من بيت الشعر قال له أحد الرجال الموجودين في مجلسه الصباحي: “لا تأخر علينا يا بو مناحي”، رد عليه والدي قائلاً: “لا ماني متأخر إن شاء الله، شوي وأجي”!

8:30٠ اتصل بي شقيقي ليخبرني بأنه سقط أمام بوابة مستشفى الملك فيصل! طلبت منه الطبيب الموجود لأسأله عن الوضع الصحي، كلمت المدير الطبي الدكتور حسن رحمه الله وسألته، فرد علي بكلمة واحدة فقط: “”serious!

عرفت بأن لحظة الوداع قد حانت أو قد أوشكت! ركبت سيارتي على عجل، كنت أسير بدون وعي مني، وإلى هذه اللحظة لا أدري كيف وصلت! كل ما كنت أعيه أن السماء كأنها قد اختفت خلف ملايين من أسراب القطا التي كانت تخرج من فمي دون أن أشعر، وكلها تصرخ بصوتٍ واحد: “قطا قطا….”

8:45 وصلت للمستشفى. سألت الدكتور حسن، أخبرني بأن القلب قد توقف ثم عاد للعمل!

9:00 نُقل للمستشفى العام بعد تحسن النبض قليلاً في سيارة الإسعاف ومعه شقيقي وتبعتهم بسيارتي. في الطريق اتصلت على مدير المستشفى لأخبره عن حالته، وعندما وصلت وجدت كامل الطاقم الطبي موجوداً في الطوارئ وعلى رأسهم مدير المستشفى الدكتور منصور اليوسف والمدير الطبي عدنان سلهب! أخبروني بأن القلب عاد للتوقف بعد الوصول للمستشفى للمرة الثالثة! عاد قلبه لدقيقة أو أقل ونظر إلي نظرة ما زالت تستوطن ذاكرتي وقلبي وكأني أراه لحظة هذه الكتابة الآن! عاد قلبه للتوقف للمرة الرابعة!

وقفت أمامه لا حول لي ولا قوة إلا بالله، ثم أماني بأن تعود أسراب القطا التي تحوم حول رأسي لفمه، وتخرج منه مرة أخرى مؤذنة بعودته للركض مجدداً في دروب الحياة! كميات كبيرة من الايبنيفرين حُقنت في وريده لعلها تساعد قلبه للعودة للعمل، ولكن لم تبدر من القلب أي استجابة! استخدموا جهاز صدمات القلب الكهربائي، ولكن لا استجابة أيضاً!

كان جميع الزملاء موجودين حوله، بداية من مدير المستشفى الدكتور منصور وكبير الأطباء د عدنان واستشاري القلب د محمود العوضي الذي كان يقوم بعمل الانعاش القلبي له بيده، وغيرهم من الزملاء، ولكن…! بعد أكثر من ربع ساعة قرر الدكتور محمود نقله للعناية المركزة. كان السرير يتحرك ومعه الدكتور محمود وهو مستمر في عملية الانعاش القلبي. أُغلق باب العناية المركزة وبقيت أنا وأخي عبدالله في الخارج ننتظر! كان يتلبسني في تلك اللحظة شبه يقين بأن هذه اللحظة الأخيرة التي سأراه فيها، ولذلك قررت الاحتفاظ بآخر مشهد له في أقصى مخابئ الذاكرة. كان ينظر لي بحب وخوف وكأنه يريد أن يقول شيئاً ولا يستطيعه! كانت تلك النظرات في آخر مرة عاد قلبه للعمل قبل يلوّح مودعاً لسفرٍ لا أوبة منه!

10:30 نصف ساعة مرّت كدهر أو أطول، بعدها خرج الدكتور عدنان من قسم العناية المركزة مُعزياً لشقيقي ولي، قائلاً بأنهم فشلوا في إعادة القلب للعمل لأكثر من نصف ساعة من الانعاش القلبي! قال كلاماً كثيراً لم اسمعه. لقد انتهى كل شيء من المُمكن أن يستحوذ على سمعي أو انتباهي.

بعد أن انتهى الدكتور عدنان من كلامه، شعرت ببرودة شديدة في ظهري وبعدها شعرت وكأنه يسقط في الفراغ. لا ظهر لي، هذا ما شعرت به لحظتها والعرق ينز من جبهتي والنار تضطرم في صدري وألم حاد في الحلق، حتى أنني أحاول أن ابتلع ريقي ولا استطيع!

لم أبكِ! ربما لأنني بإرثي البدوي العميق ووصايا أمي بأن الرجل لا ينبغي له البكاء. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى ربما محاولة لتمثل قول السمؤال: “إذا خلا منا سيد، قام سيد”، مع الفارق طبعاً، ولأن البدوي عندما يموت والده، يُصبح “هو” والده بطريقة أو بأخرى!

توجهت لأخي لأعزيه وأعرف بأن كل الكلام لا معنى له في مثل هذا الموقف، وتحديداً بالنسبة له فهو الرفيق اليومي له في الحِل والسفر والقنص! كان شعوري مبدداً بين فجيعتي وفجيعة شقيقي وفجيعة والدتي رحمها الله، المرتقبة، رفيقة عمره لأكثر من خمسين عاماً.

لأكثر من سنة وأنا أغص مرات ومرات قبل أن أُتبِع كلمة “والدي” بـ “رحمه الله”! وثلاثة عشرا عاماً أُخرى حتى تجرأت لأنظر لصورته دون أن أشيح بصري بعيداً عنها بلا شعور!

…….

يا والدي….

كان “سبتاً” فادح الخسارة وعظيم الحزن أعادني لسبتٍ قديم جعلني أكره يوم السبت مرتين! المرة الأولى كانت يوم السبت 1/ 9/ 1419هـ عندما دخلت لفناء المنزل عائداً من الخارج قبل آذان المغرب بساعة لأجدك ممدداً على البلاط وقد توقف قلبك عن النبض وأبناء أخوتي الصغار مجتمعين حولك وعلى وجوههم علامات الاستغراب. وعندما شاهدوني قالوا بصوت واحد: “عمي، شِف جدي نايم على البلاط”! لم يكذبوا، كنت نائماً فعلاً، ولكن بدون رغبتك.

كاد أن يقتلني منظرك وأنت ممدد على الأرض! أمسكت بيدك اليمنى، كانت ساخنة، وهنا عادت الحياة لقلبي! وضعت أصابعي على عنقك ولم يكن هناك أي مؤشر لوجود نبض، وضعت أذني على قلبك، ولا نبض أيضاً! عرفت بأن القلب قد توقف للتو، فبدأت بسرعة في إنعاش القلب بالضغط بباطن الكفين ثلاث مرات في منتصف الصدر وإلى اليسار قليلاً كما تدربت على يد الدكتور عبدالغني. كان الفم مغلقاً بأحكام، حاوت أن أفتحه، ولم استطع بسبب التصاق الفكين ببعضهما بقوة! ترددت قليلاً في استخدام القوة مع وجهك الشريف، ولكني اضطررت مُجبراً لذلك! نجحت في أن أفتح فمك ومن ثم أعطيك قبلة الحياة، وإن كانت تلك القبلة مرة ومحزنة في وقتها، ولكني الآن وبعد مرور أكثر من أربعة وعشرين عاماً أجدها أجمل وألذ قبلة قبلتها لك!

كنت أضغط على صدرك ومن ثم أمنحك قُبلة الحياة في فمك، وأنا تمرني لحظات التدريب في مادة الإسعافات الأولية التي درستها في الكلية وكلمات الدكتور عبدالغني وهو يخاطبني: ممتاز يا عبدالعزيز، ربنا يجعل على أيدك إنقاذ حياة إنسان ما”! دقيقتان مرت، من الانعاش القلبي حتى عاد القلب لضخ الدم بحمد الله.

 عندما عاد التنفس خرج مع أنفاسك بعض الزَبدْ، وكأنني رأيت بأنه قد تحوّل لأسرابٍ من القطا، أو هكذا خُيّل إلي! غادرت شفتيك واستوطنت صدري. اتصلت على الإسعاف ونُقلت للمستشفى والذي مكثت فيه أسبوع تقريباً قبل أن تخرج على قدميك وتعود كما كنت، عُدتَ للرجال والوجار والدلال، ولأحاديث لا متناهية البذخ والجمال!

من ناحيتي لم أغفرها ليوم السبت أبداً! وعلى ما يبدو فإنه كان يبادلني نفس الشعور، بل كان يوعدني بسبتٍ قادم، سبت أشد ظلمة وألم من سابقه! منذها وأنا في كل ليلة أدخل لبيت العائلة فأول ما أنظر إليه هو مكانك المفضل خلف “الوجار”، وكأنني أخاف أن أدخل ولا أجدك!

يا والدي….

بعد شهر تقريباً من وفاتك، فتحت الحقيبة الخلفية للسيارة فوجدت ما جعلني أتراجع ثلاث خطوات للخلف! وجدت “صديريتك” وثوبك وحذاءك والتي كنت ترتديهن عندما سقطت عند بوابة المستشفى! وقد أخذ المقص حقه من الصديرية والثوب وذلك لسرعة تخليصك منهما للتعجيل بإسعافك. كان المنظر صادماً لي، فقد أعاد كل شيء وكأنه حدث للتو! أغلقت الحقيبة وعدت لمنزلي وأنا لست أنا. تركت الحقيبة مغلقة لأكثر من شهرين، وبعدها لا أدري من الذي طلب مني التخلص منهما فأطعته بدون وعيٍ مني! إلى هذه اللحظة أشعر بغصة فقدي لهم!

بعد عدة أشهر وأنا أفتح أحد دروج مكتبي وجدت ثلاثة أشياء تخصك، لا أدري كيف وصلت إلي. وجدت مقصك الصغير والذي تستخدمه لتشذيب الشارب وملقط الشعر والختم! احتفظت بالختم في حرز عميق لا يعرف مكانه أحد، واستخدمت الملقط والمقص كما كنت تستخدمهما تماماً.

أول ما أبدأ فيه هو نزع الشعرة الوحيدة في الشامة التي تنام في خدي الأيمن، وهي الشامة التي ورثتها منك بنفس المكان ونفس الحجم! استخدم الملقط والمقص كما كنت تستخدمهما تماماً. استعيد رحلتي معك عندما كنت صغيراً وأنا أقف أمامك وأشاهدك تحاول ترتيب النافر من الشعر في وجهك الكريم، وأحاول أن أقلدك في مخيلتي. ولدي الصغير وبعد أكثر من ثلاثين عاماً رأيته يجلس أمامي وينظر لي بتركيز ويحاول أن يقلدني وأنا أحاول ترتيب النافر من الشعر، تماماً كما كنت أفعل وبنفس الحركات التي كنت أقوم بها وأنا في مثل سنّه! لا أدري من الذي قال: “إنما نحن صورة عن أباءنا”!

يا والدي…..

كل الرجال الموجودين عندك بالمجلس تبعوك واحداً أثر واحد، بعد أن تطاول عليهم الزمن في انتظار هذه الـ”شوي” أن تنتهي! متأكد بأنهم سيعذرونك وسيغفرون لك إخلافك بموعدك وإنه ليس بملكك!

يا والدي…

عشرون عاماً مرّت يا والدي لآخر مرة عانقت فيها نظرتي، نظرتك. عشرون عاماً وأنا في كل صباح استعيدها بصمت، وأتمنى لو واتتني القدرة على قراءتها والله!

يا والدي…

أشياء كثيرة لا استطيع التعبير عنها، وأشياء أكثر من الذي لا يُقال يا والدي! اعتذر لك أيها العظيم عن سوء لغتي، عن فشلي في التعبير، عن ضعف حرفي وعدم قدرته على حمل المعنى الذي تستحق.

يستوطنني الصمت هذه اللحظة كما كان يستوطنني في حضورك البهي! لا أقول إلا سامح الله “قطاة صمتي” وسامح الله من “استذارها”

يا والدي…

يموت في صدري الكلام جوعاً للمعنى الذي لا يستطيع أن يحمله، ولذلك فمن الخيرة لي أن أصمت هذه اللحظة!

أنا الذي من الصمت أتيت، وللصمت أعود!

أيام منذورة للموت!

الإهداء:

إلى صاحبي الذي أفل!

كان الأجدى لك أن تموت قبل هذا العذاب الذي قتلك قتلةً لا تليق بمن هو مثلك، ولكنها حكمة الله، إلى جنات الخلد بإذن الله بلا حساب ولا عقاب!

إهداء آخر:

للصوت الميت الذي يجادل صداه بعبثية لا معنى لها!

الصوت:

شاعر على قيد الأمل، أربكه ظلّ

وكان يتوجس من خيانة خياله

يخاف لا يفضح جنونه إذا طلّ

يخاف شيٍ يمنعه عن كماله

كان بمفازة صمته، العمر، ما مل

يكتب، يشخبط، يرتحل في سؤاله:

يسأل: متى “حياتي” أنا تحِلّ؟

ويضحك على نفسه بتمثيل داله

كان ينتظرها، بس، لو أنها تهلّ

أحلام عمره، فرحته، احتفاله!

الصدى:

وشاعر

وش فقد؟

ما فقد غير ظلّه

ما فقد غير خلّه

ما فقد إلا حياته

وكل موته فـ أمنياته

وشي باقي ما أستحلّه

وشاعرٍ

غرته بيض النوايا

وأنطلق معها يصيح:

هاتوا “كلي” يا أهلّة!

وكل صوتٍ فيه ملّه

وينتظر صبره يطول

وصبره خانه ما استدلّه!

الصوت:

يعني إذا قالوا ترى هالقمر هل

خمسٍ مرّت وعشرة من لياله

قالوا نسيته، قلت لا لا بعد قِل:

من علّم النسيان يخون حاله؟

كان يتهجى صوته المر، يبخَلّ

بخيل خايف من تهجّي احتماله

فجأة سأل! لكن من صوته أختل

ليت المفازة تستعيد اختزاله

الصدى:

وأنت شاعر

ما ذبحك إلا الغياب

وأنت في صمتك تكابر

وأنت شاعر

ما فتتك إلا الصبر

وأنت كل العمر صابر

وأنت شاعر

ما خذلك إلا اللي تحب

وِسْجَنك في قلب عابر

الصوت:

تفرح، تبسّم لكن همومك تطل

رحّب بها وخل السؤال لمُحاله

يا ميتٍ ما فيك صاف الوله دل

غير الضياع وسكته وارتحاله

كانت عيونك ظل ما مثلها ظل

وصارت عيونك جمر فزّ اشتعاله

يالمنسكب دمعٍ وكل يوم ينهّلّ

دعاء يسافر فـ دمعته وانذهاله

يا ميّتٍ صلى وصلاته بها ضَلّ

ما ينفع الميت كثير ابتهاله!!

الصدى:

كنت أريدك يا انتمائي

وكنت أصيح بك:

أنت مائي

وأنا بذرتك الجميلة

دخيلك لا تخليني للعطش

ما وراي إلا موتي/ اشتهائي

ما وراي إلا فقدك/انتهائي

والله ضاقت بي السبل

والسراب اللي أسرني

حطّم قاصي كبريائي

وأنا من بعدك يا انتمائي

مات بي كل شي

من بداية دمع “ألفي”

حتى ابتهالات “يائي”!

يا انتمائي:

طالت دروب المدينة

والسكينة فارقت وجه السفينة

ما عدت لي أجمل وطن

من طحت من مركب دعائي!

الصوت:

مجنون، مخبولٍ، في حيرته ضل

ضيّع دروبه، عزّته.. واعتداله

طاحت أوجاعه وأنكسر بدمعته ذِل

ما كان واعي لكل شيٍ جرى له

بكى كما طفلٍ صغيرٍ مدللّ

طفلٍ بصبح العيد مضيّع رياله

شاعر، بس أغبى من الكل، والكل

شافوه، وعابوا به دروب الجهالة

الصدى:

وفيوم مرّته “الحياة”

وقالت بأعلمك كيف تلعب الشطرنج

وكن فيه شي داخله قال له: إنّج!

بس هو ما سمع

أو إنه ما انتبه

كان مليان بدمع

وكن قلبه اشتبه

اشتبه في عقله المسكين:

هو عاقل وإلا بعد مجنون

هو واعي وإلا بعد مفتون

وحتى الوجه اللي شافه

ما يذكر منه إلا عيون

وكانت كل مرة تقول

خلاص نحرك البيدق

ونهدم أسوار القلعة الحصينة

ونعيد سيرة ألف ليلة وليلة

ونذبح هالملك!

لكن قال الوزير:

نرجع للمربع الأول

نعيد اللعبة من الأول

أنا أخاف عليك يالبيدق المسكين

أخاف عليك يالساهم ببيتين

أخاف عليك تستعجل المشوار

وبعدين كل شي يتحوّل!

الصوت:

شاعر في ساحة خياله فرش زل

وسوى قهوته ثم نادى مُحاله

ثمٍّ تنبه للعبث وأنفجر غلّ

ولعن ضعفه، ووحدته، وانخذاله

حاول يضحك بس هالصدر معتِّلّ

صدره شمالي، بس خانه شماله

الصدى:

من قبل أعرفك

ما كنت أعرفني أنا

ومن بعد ما عرفتك

صرت أنكرني أنا

أكرهني أنا

وما يخوفني من أنا

إلا أنا!!

الصوت: صمت أخير!

كانت قلعة من حلم،

 حلم والله ما اكتمل

كانت قلعة من حلم،

 ومات في ليلة أمل!

قلعة بجدارٍ منثلم

خانه زمانه/ ما احتمل!

قلعة مبنية بألم

ودم عيّا “يندمل”!

الصدى:

يا ميّت لو تعرف الشطرنج

ما مت

يا بيدقٍ جداً غبي

بس تركض للأمام

ولا يدين لمحتك

تعيش في الأحلام

وفـ الصبح فضحتك!

وتغرق في الأوهام

وبصمت ذبحتك

ومن القلعة دمٍ يسيل

وفيل واقف مستجير

والملك جداً حزين

ملك بلا مملكة

بلا بيادق أو حرس

ولا أفيال ولا فرس

ساكت ويبيها تزين!

بس الوزير غير

والوزير جداً قاسي مختلف

دايم يرجع للمربع الأول

وفي يوم قال خلاص

المربع مات

وما في وقتٍ للرجوع

كانت الساعة عشر

وسبت يلعنه ألف سبت

وما حدٍ غيره يبّت

وسنين خمسة مع عشر

ما رحمت بيدق صغير

بيدقٍ خايف غرير

قالت له بكل هدوء:

كل شيٍ فات، فات

حياة حلوة صحيح

بس كانت “كش مات”!

ومن هذيك اللحظة “مات”!!

مرثية أخيرة لموت لن يتكرر!

نص موال عمري للشاعر هلال سلمان الشرفات

قراءة في حياة صاحبي الميت رحمه الله وغفر له وعفا عنه!

عندما يسمع مُدنَف ما متجه لمصيره المحتوم مثل هذا البكاء يسترجع حياته الميتة التي تركها خلفه، ويخاف أن يفكر في الالتفاف للخلف لا أن يلتفت أصلاً منذ البدء! مجرد الالتفات يُعيده للمربع الأول الذي سقط في جُب الغياب!

يحاول الهروب، ولكن هناك شيء ما يشدّه إلى ما يشبه كتابة مرثية أخيرة لموتٍ لن يتكرر!

يستسلم لمصيره فيصب هذا البكاء ذنوبه في إذنه عشرات المرات! يخيفه أن يرى كل ما خلفه يابساً، ذابلاً، وميتاً دون أن يترك أثراً خلفه، حتى لو كان ذلك الأثر حفنة من رماد لا تلبث رياح النسيان أن تحوّله إلى هباء! قد يكون ذلك هروباً مؤقتاً من الموت الذي يشتعل داخله. ولكنه مع ذلك يظن أن مثل هذا البكاء الظاهري أو حتى براكين البكاء التي تنفجر داخله في كل ثانية منذ وهنٍ لا يريد أن يتذكره، مجرد تناسل للموت من موتٍ سبقه، من موتٍ آخر سبقه، وأن هذه العملية المؤلمة هي متوالية عبثية وسرمدية!

يظن أن رؤية الإنسان لنهايته بطريقة واضحة شيء لا بأس فيه، بل أكثر من رائع لأنه يأمن على نفسه من الأحداث المفاجئة التي قد تقتله وهو يركض في مضامير الأمل دون أن يعرف حقيقها من مزيفها! يظن بأن تلك النهاية أكثر رقياً واحتراماً من ترك ذلك الميّت معلقاً على مقاصل الانتظار وموته المتناسل منه في كل لحظة!

وعن القصيدة التي تُرعبه وخاصة تلك التي تكون أحد قوافيها نون مشددة وما قبلها ساكن، مثل هذه القصائد تنزل كمطرٍ أسود لا رحمة فيه ولا نماء، فقط ذلك الماء الملوث الذي يُنبت أزهار الموت، واليأس، والخوف، والفراق! تخيفه القصيدة التي تكون كذلك ولذلك منذ وقت لا يتذكره يهرب من تلك القصائد من البيت الأول! هذه القصيدة نجحت فيما فشلت قصائد أخرى، فقد نجحت في القبض على هذا المُدنف قبل أن يهرب! كان “موال عمري” هو العنوان الذي توشحت به القصيدة كافياً ليكون شبكة صيد محكمة لاصطياد ذاك المُدنف وأكمل شد خيوط الشبكة … “اللايمات الطواري….” البيت الذي زلزله ومن ثم أدخله لغيبوبة لم يفق منها أبداً!

اللايمات الطواري لأدلج الليل جن

              تصببن لين ما جد السهر ملّني!

وعن “اللايمات” يعود ولها ولـ ليلها السرمدي الذي لا يعترف بالسهر ولا يراه، تنهمر كسحابة ليل باردة جداً تنسكب وكأن السماء قربة أنشقت وسال منها الماء بكل تشكلاته فأغرق المكان والعيون التي لازالت غارقة بالماء منذ زمن لا يريد تذكره! الماء، ذلك الماء الذي يفعل به الأفاعيل بصمتٍ لا يُغري أحد بالالتفات إليه. في آخر الليل ينسكب به كل ما يمكن أن يؤذيه، يفتته، يقتله كل لحظة، فكل ذكرى وكل قصة وكل ضحكة وكل وعد يعود له وكأنه سمعه أو قاله هذه اللحظة فيشعر بأن الموت يتناسل داخله لملايين السنين والتي تستنسخ نفسها بمتوالية عبثية أخرى لا يد له ولا حيلة فيها!

وكلما طال الليل رافقه السهر وهو يهزأ به وبصاحبه الذي لا يملك من أمره شيئاً يستطيع فعله. وكلما طال السهر تزيد “اللايمات” بانهمارها غير المحدود بمدى معين، سوى المدى الذي مهمته الوحيدة القتل والقتل فقط! والسهر لا يمكن أن يمل منه، لأنه وفي لحظة “تجلّي” نادرة اعترف ذات انكسار بأنه “كائن مخلوق من سهر”!

غصن الشوارد تفرع، قلت يا كود حن

                 إما تهِدّ الضلوع العوج أو خلني!

وغصن الشوارد دائماً ما يحمل البشارة بالموت، الموت الذي يتباهى فيه وكأنه يحمل لك الفرح بأجمل صورة ممكنة لذلك لا يمكن في يومٍ ما أن يحمل أحد أطرافه أي “حنيّة” ممكنة حتى ولو على سبيل المجاز، تلك البشارة التي قد تعيدك لـ”للحياة” أو تعيد “الحياة” لك! وعندما أدرك الشاعر بوعي أو بدون وعي منه أن هذا الموت متناسل فأراد الحرية لذلك الغصن فأطلق له الخيار بطريقتين:

‏”إما تهِدّ الضلوع العوج أو خلني” ولكن هل ذلك الغصن البائس سيتركه؟ لا يظن ذلك، فالغصن يحمل الموت والموت فقط حسبما يعيش ذلك المدنف! يؤمن بأن لا “بشارة” ستنجيه من مصيره! فيسير بثقة مفرطة وطمأنينة لا متناهية قد يحسده عليها كل من يعرف مصيره!

لا هنت يا جرحي اللي عند مسراي ونّ

               أرقب سهيل اليماني وإن بدا سلّني

وذاك المدنف جرحه لا يفارقه أبداً، فلا يستطيع الانفكاك منه، فهو يخالط أنفاسه وسكناته ولا يستطيع أن ينعتق منه ولو لثوانٍ معدودة. يهادنه، وإن زاد بألمه يُبكيه ذاك البكاء الصامت المرير، البكاء الذي يقتله في كل دمعة وآهة، ذاك البكاء الذي ينفيه عن معناه!

ولا يشغله مراقبة “سهيل” وبينه وبين ظهور سهيل سنين ضوئية أو لا متناهية حسب تقويم ذاك المُدنف، فلا غيث قادم سيغيث قلبه، كما أن سهيل لا قيمة له بدون “الثريا” والتي هجرت “ثراها” المثمر بها فأصبح هشيماً تذروه الرياح أو هكذا يظن!

ترفّق بقهوة الخفاق والنجر دنّ

ما عاد باقي عليك إلا أنك تزلني

 وقهوة الخفاق لا تنضج إلا بعد “حمسها” على جمر الروح، ذلك الجمر الذي يجعلها تُخرج أجمل ما فيها ثم تعود بأسوأ ما فيها، ويتراوح طعمها ما بين ماء الروح والموت الزؤام!

بعد أن تبرد أو هكذا يُخيل له يقوم بتفتيتها بذاك النجر الذي يذهب مع صوته للموت ويعود، يغرق بتفاصيلٍ دقيقة جداً لأشياء كان يتمناها أن تحدث ولم تحدث، يشاهد ذلك الوجه الهلامي وهو “يُفتت” بين ذرات القهوة وهي “تنطحن” بقسوة تحت ضربات يد النجر!

 يتداعى للبكاء وهو يفتقد ذلك التشجيع بـ “جوّد له يا بن كثير” لـ “يدنّ” النجر مرات أخرى فيرى الهُلام يتحول إلى هباء وتبقى صرخاته هائمة في الهواء بعد أن فقدت من يغنيها!

“يدنّ” للمرة الثانية فيفتت “عرب القشران” إلى قشور يشربها النجر فتتحد مع نحاسه اللامع لتعيش بقية عمرها هناك حيث لا “حياة” ولا “موت”!

يكرر فعلته فتنتحر الكثير من الوجوه النائمة في الذاكرة، تلك الوجوه التي بكت الهُلام ومصيره، الذين عاشوا بجانبه لحظة بلحظة. يسكب على ماء الروح ماء الصمت فيختنق هذا بهذا وينشغل الأخير بالقهوة المطحونة ليعطيها ذلك المعنى المزيف للذة أو للحب أو لطعم لا يمكن تمييزه أو حتى تسميته!

“تزِلّ” ذلك الشيء وتحاول أن تشربه فتجده يشربك ومن ثم يقذف بك في الهباء! تقف “آههه” وحيدة تشتكي من غربة المعنى بعد أن هجرتها “الحياة”! هذه اللحظة ينتبه المُدنف بأن القهوة لم تعد تعني له شيئاً ضرورياً لـ”العيش” بعد أن فقد “الحياة”، فكل شيء يتناوله لا لذة فيه ولا طعم،

تحاول أن تستعيدها فتفشل، فتدرك بأن لا معنى يستطيع الوصول، لا معنى يعيد الحياة للحياة فتصمت، تصمت ذاك الصمت الذي يرفض التعريف أو التصنيف، تصمت وسؤال يقتلك بقسوة ويزيد موتك موتاً أكثر قسوة أيضاً: “لماذا فعلت كل ما فعلت وأنت تعرف نتيجة فعلك سلفاً؟”، يتحشرج الكلام بقلبك ولسانك، ولكن!

في آخر الهزيع من الموت تسترجع، “ليت الشوارع تجمع اثنين صدفة” وأنت تمشي في طريقك اليومي العبثي القصي تبحث فيه عن “كيانك” الذي فقدت! تتمنى أن تخطف نظرة واحدة فقط لتلك العيون الجميلة، الساهمة، الساهية، الوجلة، المترقبة، الواسعة، المرهقة، المشتتة، المتعبة، التي استوطنها الأرق والخوف، تلك العيون التي حجبت بإشعاعها والاسرار التي تحملها فضاء المكان والزمان، بل وحتى الوجه الذي تنام داخله وتفاصيله! شيء لا يصدق، والله، ولكن هذا ما حدثني به المُدنف قبل أن يغادرني للمرة الأخيرة دون أن استطيع فعل أي شيء قد يسمح له بأن يبقى على قيد “الأمل” و”الحياة” و”الحب” و”الحلم”!

ههنا يتوقف المُدنف عن الاستماع، بل عن الانصات، وبالتالي عن الكلام، لأنه يرى بأنه غير معني بباقي القصيدة لأنه لم يخلق لها ولم تخلق له، هكذا يرى الأمر ببساطة!

كان آخر ما همس به هو استغرابه من تسمية القصيدة بـ”موال عمري”، قال لي: “هي موال موتي يا صاحبي”، هي أجمل لحن جنائزي أتمنى أن تعزفه عند موتي!

.

.

.

لقد فعلت كل ما طلبته مني يا صاحبي!

هل فعلته كما تتمناه وكما تستحقه؟

لا أدري، سلام الله عليك يا صاحبي وسلام لروحك وأدعوا الله أن ترقد بسلام!

“ماجد ما كان يلعب”!

إهداء أول:

إلى جدتي الحجية، لأنها البدء والانتهاء لأنها السيدة الأولى لمساحات الذاكرة اللامتناهية!

إهداء ثاني:

إلى الدكتور الجميل سعود الصاعدي ‏@SAUD2121 الذي حفزني بتغريدته وردوده للكتابة عن ماجد*

الذاكرة عدو جميل لا تعرف سبباً لحمايته لك ممن يريد الغدر بك، وصديق لئيم لا تدري لماذا غدر بك! الذاكرة متاهة الروح ولذا هي دائماً ما تتعمد الإتيان بنا إلى قعرها والضياع بها، نجد تلك الذكريات الذابلة، العطشى، الجميلة، الميتة، النائمة، فننسى أنفسنا لوقتٍ لا نعلمه على وجه اليقين، ولكنه وقت يتجاوز طوله طول الوقت الفيزيائي العادي الذي نعيشه بملايين السنين!

كانت البداية المبكرة عندما كان أخي الأكبر مني مباشرة يُجلسني بجانبه طالباً مني مُتابعة المباريات، وهنا كان أوّل تعرّف لي على ماجد. لقد أسرتني مهارته وأهدافه ومن ثم تواضعه، والأهم من هذا كله أسرتني طريقته الخاصة للتعبير عن الفرح بعد تسجيله للأهداف وخاصة المهمة والمصيرية.

لذلك فعندما كنتُ صغيراً، كنتُ مفتوناً باثنين، جدتي “الحجيّة” ذات الوجه الأبيض النقي المتغضّن الذي يزهو بوشمٍ عجزت الأعوام “السبعين” أن تمحوه، وماجد عبد الله. جدتي كانت عالمي وتاريخي الآخر والذي أتمنى لو تأتيني القدرة على كتابته كاملاً في يومٍ ما وليس كما كتبت عنها ههنا ككتابة عرجاء لا تليق بها! ولأنها كانت عالمي كنت دائماً ما أحاول أن أجعلها تشاركني أفراحي ومسراتي البسيطة بأي شكل من الأشكال.

لم تكن جدتي _رحمها الله_ تعرف شيئاً عن كرة القدم بالطبع، ولكنني لم أستسغ عدم معرفتها بماجد عبد الله، لذلك كنتُ وبكل شقاوة الدنيا التي تتلبس ذاك الطفل الصغير أُحاول التقرب لها بكل صورة ممكنة والحديث عن ماجد عبد الله وضرورة تشجيع فريق النصر. لم تطُل محاولاتي كثيراً حتى اقتنعت جدتي _أو هكذا أوحت لي_ بأنها نصراوية، بل وماجدية وطلبت مني أخبارها متى كانت هناك مباراة للنصر أو لماجد مع المنتخب. كنت في كل مباراة أشاهدها في جهاز التليفزيون الوحيد بالمنزل والموجود في الصالة _والصالة هي المقر الدائم لجدتي فيما عدا فترة النوم_ أجلس بجانبها وأتفاعل بكل جوارحي مع المباراة. مرات عديدة كنت أقبلها وأحتضنها بعد تسجيل النصر _وخصوصاً ماجد_ لأي هدف بالمباراة.

ولأنها بذرت نظراتها الجميلة في صحاري الحماد اللامتناهية الامتداد، لم تترك معها في أواخر عمرها من تلك النظرات إلا ما “يقدّيها” ولذلك كانت لا ترى جيداً. كانت تسألني في كل مرة يعرض على شاشة التلفزيون مباراة: “ماجد يلعب؟”. فأرد عليها فرحاً باهتمامها: “لا يا جدة هذي مباراة ثانية”. تأتيني ردة فعلها سريعاً: “لا لعب ماجد علمني يا وليدي”. ينفجر الطفل بي فرحاً وهو يصرخ: “أبشري يا جدة”. لم أكن أعلم أنه كل كان ما يهمها هو إسعادي وأنها لا تعرف ما هي كرة القدم أصلاً.

ماجد يلعب؟

لا، ماجد ما كان يلعب يا جدتي! ماجد كان “يسوي” شيء غير اللعب، تقدر تقول سحر، تقدر تقول فن، تقدر تقول شي خارج إطار العقل. بس صدقاً “ماجد ما كان يلعب”!

مع بداية حركة ماجد في الملعب كانت تتهيأ الفرقة الموسيقية لعزف جميع المعزوفات الخاصة والتي لم تكتب إلا لماجد، موسيقى الفرح لأهدافه، موسيقى الحزن لإصابته، موسيقى السلام الملكي لبطولاته! عندما ينطلق ماجد للكرة يرتبك أمامه من كُلّف في مراقبته من مدافعي الفريق الآخر، يتمنى لو يكن موجوداً في الملعب لحظتها! عندما ينطلق ماجد بالكرة يرتبك الفريق الآخر كله، يرتبك الجمهور، يرتبك المعلق، يرتبك قلبي الصغير وقتها! يتجاوز ماجد مدافع فيسقط، يسقط لأن قلبه لم يحتمل رؤية ماجد وقد تجاوزه، تنطلق الموسيقى صادحة من بين أقدامه وكلما رفع قدماً اهتزت النوتة طرباً قبل أن تحاول جاهدة مجاراة نغمات أقدامه على العشب وفي مغازلة الكرة ومعانقتها! يتجاوز ماجد الآخر، فيحاول، ذاك الآخر، جاهداً ألا يقع في العار الذي وقع فيه صاحبه، لا يستطيع وأنى له ذلك! يلجأ لطرق غير قانونية محاولاً أسقاط ماجد، ولكن محاولته تبوء بالفشل، الفشل الذي سيُفرح الملايين من عشاق المستديرة. ينفرد ماجد في الحارس، تصدح الموسيقى وتتلهف آلاتها الإيقاعية للحصول على حصة الأسد في الثواني المقبلة من بقية آلات الفرقة، تصبح الدنيا بمجملها أضيق من فتحة الإبرة في عين الحارس بينما ماجد يسير بعبثيته الجميلة، بسورياليته الأخّاذة ولا يشاهد أمامه إلا دمية تهتز له طرباً ولموسيقاه الجميلة التي يعزفها بأقدامه. ماجد لا يريد إرباك الحارس المسكين ولذلك يرى بأن عليه واجباً ألا يقذف الكرة بقوة قبل أن يصل إليه لأنه ولشفافيته لا يريد جرح مشاعره التي تتمزق في كل اتجاه لحظتها! يظن ماجد، وظنه يقين، بأن من الأجمل أن يترك الحارس يذهب يميناً ويتجه هو يساراً رغبة منه في رفع الحرج عن ذلك المسكين! بحركة جميلة من جسد ماجد يذهب الحارس يميناً، يذهب لمدراة أحلامه البائسة، يبكي حظه العاثر، ولكنه في داخله يستمتع، يفرح كثيراً بأن اسمه سيخلده التاريخ لأن ماجد قد سجل فيه هدفاً جميلاً كهذا الهدف! يسرى ماجد تتردد في أرسال الكرة للشباك التي تهتف لها مرحبة لسبب لا يدريه، ولكنه يخجل في النهاية من لهفة تلك الشباك للكرة فيرسلها على استحياء، يرسلها دائماً قريباً من القائم وكأن ضميره يؤنبه لما حدث للمدافعين وللحارس والذي سقط عن يمينه وكل خليه في جسده تبكي حسرة على حظه العاثر! تصل الكرة للشباك فتضمها بحنوٍ بالغ وهي تبثها شوقها لها، تصدح الموسيقى من كل مكان، تنتصر ألات الإيقاع على الآلات الوترية لحظتها، تزداد ضراوة الحرب الأهلية بين آلات الفرقة الموسيقية، يصدح الجمهور بموسيقاه الخاصة، تُفتن الدنيا بكل ما حدث ويحدث، ينطلق ماجد للأمام راكضاً وهو يرفع يده اليمنى كما لم يرفعها أحد! فـ يده اليمنى التي ترتفع عالياً هي أحد أهم ما يتميز به ماجد، ومميزاته لا تعد ولا تُحصى كلاعب خارق، أن له طريقة متفردة في الاحتفال بتسجيل الأهداف، وإن كانت الطريقة تتأثر بأهمية الهدف أو المباراة من عدمه. عندما يسجل ماجد الهدف، خاصة عندما يسجله بقدمه اليسرى، ينطلق راكضاً جهة اليسار من مكانه، ينحي بجسده ناحية الأرض يساراً قليلاً وكأنه يريد أن يهمس برسالة لمنطقة الجزاء في ملعب الخصم، أنا أحبك لأن أفراحي تنطلق منك أيها المستطيل الصغير! يستوي جسد ماجد فيرفع يده اليمنى باسطاً كفه بكاملها، تاركاً فراغات بسيطة بين أصابعه وهو يحي الجمهور والذي يبادله التحية بأمثالها، أحياناً إذا كان الهدف يمثل أهمية كبرى يقوم برفع يده اليسرى بعد اليمنى وكأنه يخاطبها، لا بأس سأترك لك فرصة للفرح أيضاً.

يده العظيمة تلك كانت تعنى إعادة الهدوء للعالم، منحه ساعة سلام، ساعة حب، ساعة أمن، عزف معزوفة موسيقية لن تتكرر، ساعة تغنيه عن الكثير من حياته الماضية التي عبرته بدون أن يعيش مثل هذا المشهد! يعود ماجد للملعب هادئاً متواضعاً وكأنه لم يفعل شيئاً بينما العالم من خلفه يكاد أن ينفجر من الفرح والحزن معاً، فهو وإن كان يهدينا الفرح فهو يهدي لآخرين حزناً عميقاً لن تمحوه الأعوام التي سيعبرها لاحقاً مهما تطاولت وهي تسير في طريقها اللامتناهي الامتداد!

بعد دخولي للجامعة بهت حبي لماجد والنصر، لم أعد أهتم لماجد وأهدافه، لمباريات النصر والمنتخب، انتبهت لاحقاً بأن ذلك قد بدأ فعلياً من بداية موسم 1994، في ذلك الموسم وما تبعه من مواسم لم أتذكر مرة واحدة بأنني سألت عن مباريات النصر ولا عن ماجد وأهدافه، يأتي الدوري وينتهي ولا أهتم كثيراً به، يفوز النصر ببطولة، ويسجل ماجد، كعادته الأهداف العظيمة ويفوز بلقب الهداف ولا أهتم كثيراً لهذا الأمر! وكانت عندما أساءل نفسي، ما الأمر؟ كنت أجيب بلا مبالاة، بأن الأمر يتعلق بالدراسة وتعبها والغربة وتغير الاهتمامات! مضى عمر طويل حتى نسيت كل ما يذكرني بالكرة وماجد والنصر!

 في أواخر عام 2013 دار نقاش بيني وبين الأصدقاء ‏@alghubein@enazisf@MO7AMMEDRUMAI7 عن النصر فقلت بأن الطفل يجب أن يتربى على عشق النصر وذلك لكي يكبر ويعرف بأن العالم ليس وردياً ولا جميلاً وبأن الصدمات ستؤلمه وبأن الفشل لن يكون غريباً في حياته وأن الأعداء سيكونون كالماء في حياته! كل هذه الصدمات ستجعله قوياً في المستقبل، لا يعرف معنى الهشاشة ومن هذا المنطلق قمت بشراء لباس رياضة لطفلي الصغير سيف ووضعت صورته في تغريدة بتويتر، كل ذلك لأزرع في ابني القوة، تلك القوة التي ينتجها الفشل بعد أن يتبين الإنسان سبب فشله! لكن في تلك السنة بدأ النصر في العودة للمنافسة وتحقيق البطولات ومع ذلك لم أكن أهتم كثيراً في تتبع أو متابعة مبارياته، كنت عندما أعلم عن فوزه في مباراة ما فأذهب لليوتيوب لمشاهدة أهداف المباراة فقط!

أعود لحديثي عن عدم مبالاتي بتشجيع النصر، حقيقة لم أفكر كثيراً بالأمر وعزيته إلى دراستي الجامعية وقتها ومن ثم الوظيفة والتقدم بالعمر واختلاف الاهتمامات، ولكن عندما غرد الدكتور سعود الصاعدي تغريدته عن ماجد ورددت عليه، أعادتني ذاكرتي إلى الأماكن القصية فيها فعرفت لماذا لم أعد أهتم بماجد والنصر والكرة!

في تلك السنة تقريباً كانت وفاة جدتي الحجية رحمها الله، لقد ماتت الإنسانة التي زرعت في داخلي حب الجمال والإبداع، تلك التي كانت دوماً ما تسألني عندما تشاهد أي مباراة على شاشة التلفزيون:

“ماجد هو يلعب”؟!

ماتت جدتي الحجية رحمها الله وغفر لها وعفا عنها، ماتت من كانت هي المعادل الموضوعي لحبي لماجد والنصر والكرة فمات مع موتها حبي لهما!

ويبقى السؤال عالقاً بلا إجابة:

” ماجد هو يلعب “؟!

ملاحظة:

لا تلوموني على كثر الفواصل وقلّة النقط فيما ورد أعلاه، لكن ربما لأنني أرى بأن ماجد عبارة عن جملة لا متناهية الامتداد من الإبداع!

  • كانت تغريدات الدكتور سعود التي استفزتني للكتابة في 18 سبتمبر 2021 وأتذكر بأنني قد بدأت في كتابة هذه التدوينة في ذلك الوقت، ولكني أُنسيتها للأسف كل هذا الوقت، فلم أجدها إلا هذه الليلة!

صرخة أخيرة في وجه الموت!

الإهداء:

إلى صاحبي الميت بعد أن غادرته “الحياة”، وتركته لضباع الخيبة في مفازة الغياب!

بالله وين الناس، يا راحليني؟

ياللي تركتكم خلفكم كل الأشياء!

بالله وين الناس، يا تاركيني

ياللي كانت “أتركك” كنها إغماء

بالله وين الناس، يا مبعديني

هذي حياتي دونكم صارت أشلاء

بالله وين الناس، يا غايبيني

هاتوا حياتي، ما بقى داخلي أءءء

ياللي خذيتوا القلب، وخافي حنيني

ياللي تركتوا الماء يستجدي الماء!

يا موحشة، يا دنيتي، يا سنيني

يا مُتعبة هالجرح في دمعته جاء!

يشرح عذابي فـ فيافي أنيني

ويبكي بدمعي كل جرحٍ معه فاء

فديت عمرك، فدوتك دمعتيني

فاضت عيوني موت، فاضت بي إعياء

يا موت بس شوي به كلمتيني

ودي تسمعهن! ترى كلها إطراء

يا موت بس شوي بي ضحكتيني

ودي “حياتي” تنتشي فيهن إغواء

ودي بـ”ياااارب” تطير من شفتيني

وتحط على قلبي وتشعل بي الياء

يا رب يا رب البشر يا معيني

تجمعني باللي بعدها صار لي داء

حاولت أكتب شي بخافي كنيني

بس اكتشفت إني أنا غلطة إملاء!

كتبت ألف وحاء ثم شرطتيني

كتبت نص الكاف وخانتني الباء

يا هـ”الحياة” اللي تلاشت بعيني

وش بي بقا وإلا رحل غير الأخطاء

أيه اعترف، كنتي “حياة” الحزيني

ومن رحتي والله ما بها أي إغراء

ليت بيديني، آآه ليت بيديني

ليت بيديني أنسكب داخلك حاء

حـ ب وحـ ياة وحـ لم وكل الحـ ـنيني

ثم أجمعك من داخلك وآشربك هاء

هـ لا، هـ ـلا بك، هـ ـمت بك يا ضنيني

هـ ـويت روحك، هايمٍ فيك يا “ماء”!

يا “ماء” أنا عطشان ليتك تجيني

ياللي اختصرت بـ”رشفتك”كل الأحياء

* * *

بعدك أنا بدنياي ضيّعت “ويني”

والشعر ماخذني على درب الإغواء

ملعون أبو شعرٍ ذبحني لِعِيني

ملعون أبو شعرٍ يعلقّني على لاء

لا للكلام ولا، لا، لا يبيني

أمسح كلامك واختصر كل الأسماء

وإن مت في حبك، لا لا تحتريني

خذ هـ”الحياة، وخلّ لي كل الأشلاء!!

رسائل متساقطة في مفازة النسيان!

قراءة أولى لـ لحظة هاربة من حياة فتاة بدوية!

الإهداء:

للروح القادمة من الأعماق، تلك التي تأخرت عمراً بأكمله، تلك التي صبّت سحابتها في قلبي قبل أن….!

في الكتابة عما “قبل الـ قبل”:

والله لولا الحيا لا أصيح 

ياما الحوادير ييتوني 

والضرس عذرٍ عن التبييح 

ما وديّ الناس يدروني 

في الكتابة عما قبل:

هي الأيام، هي الأيام الغادرة، هي الأيام العاشقة، هي الأيام المولعة بسرقة القلوب، هي الأيام المتلهفة على خيانة الأحباب وتفريقهم وتشتيت شملهم وموت أملهم وتفرق جمعهم وتزايد همهم وغمهم! نفسها تلك الأيام التي ابتسمت لهم سابقاً وأسعدتهم وأفرحتهم وأضحكتهم وأنستهم وآنستهم وزرعت الورد في دروبهم ونزعت الشوك من قلوبهم! 

تلك الأيام هي نفسها ولكن ما يميزها، أو ما تُحاول هي أن تُميز نفسها به، أنها متلونة وتأتِ بألف وجهٍ ووجه! وجه الحبيب الذي لم تكن تأمل برؤيته حتى في المنام ووجه “البغيض” الذي تكرهه وتتوجس من حضوره، وتتمنى لو أن بينك وبينه بعد المشرقين عن المغربين. هي نفسها تلك الأيام التي نحبها ونتمناها ونغازلها ونعشقها ونبحث عن رضاها حتى وإن غضبت منا وجفتنا!

يضيع الكثير من العمر بين ما نتمنى أن نعيشه وبين ما نعيشه فعلاً، ولذلك لا أجمل من تلك العبارة التي أراقها إنسان عزيز على قلبي في أذني وروحي: “لا أعرضت لك “الوناسة” لا تخليها”! وقعت تحت خدر تلك الجملة بسيطة اللغة وعميقة المعنى لعدة أيام ولا زالت تحفر في العمق بحثاً عن وميض أي “وناسة” قادمة لأتشبث بها وأعانقها حتى لو كانت من الماضي السحيق. و”الوناسة” هي السعادة استطيع أن أعرفها بأنها: “مرحلة السعادة القصوى”. وما أجمل أن تكون السعادة بقرب من نحب ونهوى ونتماهى معه ونشعر بوجودنا معه، وأن وجودنا قد أُعيد تشكّله وأتخذ بسببه ذلك المعنى الكامل الذي كنا نبحث عنه ونتمناه!

في زمن “ما قبل القبل” كان “الهوى” أي العشق مباحاً في المجتمعات البدوية الرحالة ومجتمع قبيلة الرولة أحدها، بل أنه من غير المستغرب أن يكون فلان “هويّ” فلانة أي حبيبها والجميع يعلم بذلك “الهوى” وربما تغزل باسمها دون أن يحدث له مكروه، على أن ذلك “الهوى” له ضوابطه المعروفة وعلى رأسها عدم حدوث التلامس بين العاشقين فلربما كانا في مكان واحد ويمكثان أيام طويلة بدون لقاء إلا إذا لمحها مصادفة عند “القليب” أو “الغدير” قد أتت “روّايّة” لجلب الماء إلى أهلها. وكان أعظم شرف قد يناله الحبيب من حبيبته، هو أن تسمح له بشرف مساعدتها في حمل “راوية الماء” أو القِرْبَة الثقيلة لوضعها على الجمل المخصص لنقل الماء، فهذا الشرف يجعله يعيش لأيامٍ طويلة وهو يلتذ بتلك اللحظة ويتباهى بها أمام أقرانه. أو قد تكون ذهبت مع صويحباتها “حطّابة” تجلب لأهلها ما يحتاجونه من حطب فيصادفها ويتبادل معها كلمات عجلى تتفتت حروفها بينهم قبل أن تصل لأسماعهم. 

كل هذا يتعامل معه المجتمع البدوي بطريقة مبسطة ويغض النظر عنه ما دام في حدوده المعروفة في مجتمع تكون فيه “ثيمة الشرف” حداً لا يمكن التهاون فيه إطلاقاً!

في كتابتي هنا لا أدعي سعيي إلى توثيق تلك الحياة الذاهبة ولا إلى تمجيدها وتقديم المبررات إلى القراء بصوابيتها من عدمها أو حتى نقدها، وإنما لوصفها بطريقة مبسطة لعل قراء هذا الجيل يستوعبونها بعيداً عن النظرة الانطباعية المسبقة التي يعيشونها حالياً لتفسير أو تعريف مفهوم العلاقة بين الرجل والأنثى خارج إطار مؤسسة الزواج! أنا هنا اقتنصت لحظة ميتة من تلك الحياة الذاهبة وحاولت نفخ الروح فيها وإعادتها للحياة ولو في قلوب وعقول وذاكرة من يقرأ هذه الأحرف!  

في الكتابة عما بين:

الأبيات أعلاه هي هجينية لفتاة رويلية عاشقة، خانها الرواة فخبئوا اسمها في حرزٍ عميق فلم نجده! كانت خطواتها، عندما تسير في أرض الحماد أو النفود، تغرس بذور النويّر والديدحان والقحويان خلفها وتترك لعبقها والمطر مهمة أنباتها! عشقت هذه الفتاة، والفتاة البدوية بالمجمل عندما تعشق “تهيجن” و”تهيجن” و”تهيجن” إلى أن تشاركها النياق التي ترافقها والغزلان التي تجاريها من بعيد “هجينيتها” ومع كل آهة تطلقها الفتاة تشعر الغزلان بأمان أكثر وتقترب منها أكثر وهي تستشعر معنى ذلك الأمان الجميل بقربها! “هجينيتها” تلك تهتز طرباً لها “أم سالم” وتتوقف عن الغناء وأن يستكن القطا في أمكنته ويستمع بكل حب لـها وقد نسي تماماً صيحته المشهورة عندما يطير” قطا قطا قطا” وتتمايل زهور القحويان والنويّر والديدحان على تلك الأنغام الجميلة فتغطي روائحها الجميلة كل الأمكنة! عندها توقن الفتاة بأن هجينيتها قد حملها الطير والحيوان وحتى الجماد فتصمت، وعندما تصمت يصيبها الوهن والذبول إذا لم يجمعها القدر بحبيبها كأن تحمل قطاة عابرة رسالتها لحبيبها أو أن تغني “أم سالم” هجينيتها في معشوقها في أحد “الريضان” فيسمعها المعشوق وتكون هي السهم الذي يسقط بين أضلاعه، أو تحمل تلك الرسالة ومضة برق نظرتها الحالمة له!

أحبت تلك الفتاة أحد شباب القبيلة، وأخفت حبها له عن الجميع بل ربما حتى عن المحبوب نفسه! ولأن البدو عامة في فصل الصيف يقطنون على “الجويّة” ومفردها “جوّ” وهي مجموعات الأبار التي يسمونها “القلبان”، أي جمع “قليب” وغالب هذه “الجويّة” التي تقع على حدود النفود والحماد تكون بعيدة عن المدن التي اعتاد أهل البادية في شمال الجزيرة العربية الامتيار منها تكون قريب من ريف البادية في بلاد الهلال الخصيب سواء في العراق أو بلاد الشام. رحلة الامتيار هذه يسمونها البدو “الحدرة” وأفرادها يسمون “الحوادير” وهي الكلمة التي وردت ضمن الأبيات. والحدرة قد تطول وقد تقصر ولكنها في الغالب لا تقل عن الشهرين، ولذلك علمت الفتاة بأنها لن تستطيع صبراً على أن تكون بعيدة عن “هويها” هذه المدة الطويلة. ولذلك حاولت بشتى الوسائل مرافقة القافلة ولكنها جوبهت برفضٍ قاطع من أهلها حتى هدتها الحيلة إلى الاعتذار بألم “الضرس” وأنها بحاجة إلى خلعه في تلك المدينة التي تقع على ريف البادية!

في الكتابة عما “بين البين”:

أن تُحب، يعني أن تنتمي، وأن تنتمي يعني أن تتلاشى فيمن تنتمي له، أن تراه بأنه هو السكن والوطن والكينونة والكيان والسعادة، أن يكون محبوبك هو سرورك ومسرتك وسرك وأسرك وسريرتك! أن تُحب يعني أن تستوطن الآخر ويستوطنك وهذا ما عبرت عنه هذا الشاعرة بهجينيتها البسيطة جداً من ناحية اللغة، العميقة جداً جداً جداً جداً من ناحية المعنى!

تذكر العاشقة في بداية هجينيتها ذلك المانع القوي والقيد المتجذر في نفس الأنثى البدوية، أنه الحياء، الحياء الذي أخرس لسانها وأقفل فمها عن زلزلة “نزل الفريق” بصيحة عظيمة تُشعر الأطفال بالرعب وتُخيف النساء وتجفل الإبل من “مُرحها” و”تِرهم” الخيل في مرابطها من شدة صوت صرختها. تلك الصرخة التي ستزلزل الكون بأجمعه وليس “نزل الفريق” الصغير بما فيه فقط! 

ولكن هل هي صيحة واحدة فقط وينتهي الأمر فقط؟ لا! ليس الأمر كذلك يا للأسف! إن الصيحة التي منع الحياء تلك العاشقة المتولهة من إطلاقها تبدأ من خروج معشوقها مع القافلة للامتيار، وتنتهي بعودتها إلى مضارب القبيلة. وهذه الرحلة لا تقل عن شهرين على أقل تقدير وهذا يعتمد على المكان الذي تقطنه القبيلة وقتها ومدى قربه أو بعده عن المدينة المقصودة للامتيار، أنها صيحة عظيمة ممتدة إلى اللا مدى!

لكم أن تستمتعوا بهذه المفردة العظيمة “التبييح”، والتي أتت من “باح” أي كشف السر، ولكن “باح” تنتصب في وسطها “ألف” شامخة تدل على المقاومة والصبر والكفاح بعكس مفردة “التبييح” والتي تخنقها من وسطها يائين حزينتين ومكسورتين. “يائيين”، اعتذر عن جرهما بدلاً من الرفع لأنهما للعاشقة وليس للغة أي شأن بها، كانتا تفضحان كل شيء، الصمت، العشق، البكاء، الندم، اليأس، وحتى الموت المختبئ خلف كل هذه الحشود!

من الواضح أن العاشقة حاربت بكل وسيلة ممكنة في سبيل مرافقة القافلة والاستمرار بقرب معشوقها وليس لها هدفاً سوى أن تكون قريبة منه لا أكثر، وعندما فشلت في مرافقة القافلة أدعت بأن “ضرسها” يؤلمها وأنها بحاجة ماسة لمرافقة القافلة لخلع ذلك الضرس عند الطبيب الموجود في تلك المدينة! 

عندما تمعنت في البيت الثاني مرة أخرى، وجدت بأن هذه العاشقة على استعداد تام لخلع ضرسها السليم وتحمل ذلك الألم الشديد الذي يرافقه وخاصة في ذلك الوقت الذي لم توجد فيه المخدرات الموضعية فقط لمجرد البقاء بقرب المعشوق تلك المدة القصيرة، على أن يبقى عشقها له سراً عن الجميع لا يعرفه أحد ولا تريد كذلك أن يعرفه أحد، ذلك البقاء الذي تتمناه قد لا يعني الالتقاء الدائم أو التواصل وإنما قد لا يعدو عن مجرد الشعور بوجود ذلك الحبيب بالقرب، فالقافلة ستكون سائرة من قبل شروق الشمس إلى غروبها والجميع سيكون منهكاً من طول المسير والتعب واللقاء قد لا يعدو كونه ضرباً من ضروب المستحيل!

وجمتُ للحظات وأنا أتساءل بيني وبين نفسي، كيف للحب أن يفعل كل هذا، كيف لهذا العشق أن يجعلك تتلاشى في ذلك الآخر وتذوب فيه إلى درجة ألّا تشعر بمعنى وجودك وكينونتك ومعناك خارج دائرة من تحب؟!

في الكتابة عما بعد:

لا أسوأ من أن تفقد الأمل في الحياة، في الحب، في ماهية المعنى، أن تشعر بأنك تُذبح في كل لحظة من الوريد للوريد! لحظتها ستفقد أتزانك، وقارك، صمتك، خوفك، ستشعر بأنك ميّت وإن كنت على قيد حياة!

هذي الهجينية هي رسالة من ضمن الكثير من الرسائل التي تساقطت في مفازة النسيان! والبدو الرّحل حياتهم سلسلة لا متناهية من المفازات، مفازة النسيان، مفازة الذاكرة، مفازة الحياة، مفازة الحب، مفازة الرحيل، مفازة العطش، مفازة الجوع، مفازة الخوف. ولأن حياة هؤلاء البدو قائمة على الارتحال والارتحال، ولأنهم أيضاً لا يجيدون حفظ الأشياء، أو بمعنى أصح لا يحبون التمسك بالأشياء، بالذاكرة، بالحياة فلا يرون بأن هناك شيئاً يعنيهم سوى اللحظة الراهنة، اللحظة الحالمة، اللحظة التي يعيشونها ويتمنونها! ولذلك كله يسقط منهم الكثير من الأشياء، الكثير من الحياة، الكثير من الذاكرة في تلك المفازات التي يعبرونها أو”تعبرهم”. وهذه الرسالة مما سقط في مفازة النسيان ولم أجد منها إلا أجزاء بسيطة وقد أكلت بقيتها ذئاب النسيان المتوحشة التي وجدتها في مفازتها! ه

ذه الرسالة قُدِّر لها أن تقع بين يدي وأن أحاول بقدر استطاعتي تفكيككها ومحاولة استخراج المخبوء فيها وكل الـ ما لا يُقال!  هي رسالة ولكنها ليست كأي رسالة، رسالة سقطت في مفازة النسيان قبل أن تلتقطها تلك الروح الجميلة وتريقها في أذني لأنتشي بها عمراً لا استطيع تقدير مدته!

ولهذا كله، ولأشياء أخرى فأنني أرى بإن هذه الرسالة كانت كصرخة طائر البجع الأخيرة والحزينة التي يطلقها قبل موته، والناس تحسب بأنه يترنم بأغنيته للحب والحياة، أنها تلويحة وداع تأخرت عمراً بأكمله قبل أن تمتد تلك اليد ملوّحة بالفراغ للفراغ! الفراغ هو من يكتب، والفراغ هو من يقرأ وقتها، والفراغ هي الذي يستطيع إنهاء كل شيء، كل شيء!

في الكتابة عما “بعد الـ بعد”:

أنا أظن، لا، أنا لا أظن، بل أجزم، وبما أن من روى القصيدة قد قال بأن هناك أبياتاً أخرى في الهجينية لم يحفظها، بأن البيت الأخير سيكون هكذا:

“ما أنساه والله وعليه أصيح

ما أنساه لو أنتم ذبحتوني”

هل قلت سيكون؟

بل يقيناً هو هكذا، يقيناً هو هكذا! 

لقد صبّته تلك العاشقة هذه اللحظة في أذني هذه اللحظة وغادرتني على عجل! وهنا سأستأذنكم لكيلا تسرقوا صوتها من أذني:

تعالي أيتها العاشقة أنقذيني بالشطر الأخير:

ما

أنساه

لو

أنتم

ذبحتوني!

إضاءة متأخرة:

بيتان من شعر الهجيني أُريقت في أذني واستطعمتهما روحي كالشهد بل أحلى! لم يصلني اسم الشاعرة التي قالتهما ولا زمنها الذي عاشت فيه، ولأنني لا أنوي في هذه الكتابة التأريخ للقصيدة وقصتها لمجرد التاريخ فقد افترضت جدلاً بأن الشاعرة قد قالت الأبيات في الفترة ما بين ١٣٠٠هـ إلى١٣٤٠هـ. وعلى هذا الافتراض بنيت كل ما في الكتابة التي بين أيديكم، لا لشيء إلا لأقول لكم مرة أخرى بأن التأريخ للقصيدة بشخصياتها الحقيقية لست معنياً به أبداً!

قــلــم بــاركـــر!

“قلم باركر”

في خامس ابتدائي مرّت المدرسة بحالة نشاط “لا صفي” كبير، حيث خُصص ثلاثة حصص في الأسبوع للأنشطة اللاصفية. قُسِّم الطلاب إلى مجموعات حسب اختيارهم، فهناك مجموعة المكتبة، مجموعة الاجتماعيات “الجغرافيا والتاريخ”، مجموعة الأعمال الفنية والرياضة وغيرها. ولأني كنت منبهراً بالكتب وعوالمها فقد انضممت لمجموعة المكتبة بدون أدني تفكير، وقد رحّب بي مدرس اللغة العربية والمسؤول عن المجموعة وحفزني بكلمات جميلة عندما قال لي بأن قراءة الكتب وتمعن ما فيها من أفكار ومعلومات هي من تصنع ثقافة الإنسان. دخلت المكتبة وتجولت فيها ورأيت كماً مهولاً من الكتب لم أره في حياتي من قبل، ولأول مرة أستعير كتاباً في حياتي، ذلك الكتاب هو “رحلات جيلفر”. أخذته معي للبيت وأخفيته عن الكل وقرأته بشغف كبير. في الأسبوع التالي وفي حصة النشاط وبينما أنا في المكتبة أتجول بين تلك النِعم التي لم أكن أحلم بها في يوم من الأيام وأمين المكتبة يساعد الطلاب في اختياراتهم دخل علينا الأستاذ صلاح مدرس مادتي الجغرافيا والتاريخ، وأخذني بالقوة وضمني لمجموعة “الاجتماعيات” بحجة أنني من الطلاب المتميزين في مادتيه! كان موقف مدرس اللغة العربية، المسؤول عن المجموعة، سلبياً فقد بقي صامتاً أمام توسلات عيني ولم يمانع في خروجي من المجموعة وأنا الذي كنت بين نارين، نار الرغبة في الكتب وعالمها الغامض الجميل ونار الخوف من أن أغضب الأستاذ صلاح، فلم استطع الدفاع عن رغبتي الجامحة في الكتب والمكتبة. ما أذكره هو أن نظراتي الحزينة قد سقطت على وجه مدرس اللغة العربية وكنت أشعر بأن ذلك الوجه كان بارداً جداً، لا يشبه برودته إلا أرضية رخام تسير عليها حافياً في ليلة شتاء شديدة الصقيع!

كان التاريخ عشقي، ولايزال، باعتباره قصص وأخبار ومعلومات و”سوالف الأولين” وكان خير مصدر لأرواء ذلك العشق هو المكتبة التي انتزعت منها انتزاعاً ورغماً عني. أما الجغرافيا فلم أكن أحبها كمادة وذلك لأن منهجها كان مليئاً بالدول والمعلومات المكثفة عن مناخها وتضاريسها واقتصادها وأهم المدن وغيرها من المعلومات التي لا تستهويني! لا زلت أذكر ذلك السؤال الذي أتاني في نهاية السنة في صف سادس ابتدائي عن المقارنة بين مناخ وتضاريس كل من دولتي ألمانيا وإسبانيا والذي فشلت في الإجابة عليه بطريقة كاملة. وللمفارقة الكبيرة فإن ألمانيا وإسبانيا هما الدولتان الأوربيتان الوحيدتان التي زرتهما في حياتي إلى لحظة كتابة هذه التدوينة! ربما كان عقلي الباطن ينتقم بطريقته الخاصة.

نعود لحديثنا، كانت مجموعة الجغرافيا مكونة من ثلاثة طلاب فقط، “أمين سر” المجموعة، وكنت أتساءل بعقلي الصغير عن “ماهية الأسرار” التي تكون في عملنا وتستدعي بأن يكون له أميناً يحفظ سره ويكتمه! والذي رُشح له الطالب الأكبر سناً مني وهو من طلاب الصف السادس، لازلت أحفظ اسمه، وأنا وزميل آخر لي، لا أتذكر اسمه الآن، كأعضاء من نفس الفصل، فصل خامس “أ”. أخذنا الأستاذ صلاح أنا وزميلي لمعمل الجغرافيا وأحضر لنا خشب “الأبلكاش” الرفيع وأعطانا مناشير صغيرة ورسم على الخشب بقلم الرصاص أشكال معينة لنقوم بقصها بطريقة احترافية وذلك لصنع خارطة المملكة العربية السعودية على لوحة كبيرة من الخشب، كان الخشب المقصوص بأشكال وأحجام مختلفة يرتفع ويُلصق بصمغٍ خاص فوق بعض لتوضيح التضاريس على الخارطة وخاصة الجبال حسب تدرّج ارتفاعها بحيث كنا نلوّن كل قطعة خشب بلون معين وذلك للتعبير عن الارتفاعات المختلفة وأذكر أن جبال السروات وخاصة بمنطقة الجنوب السعودي قد احتاجت لجهد عظيم منّا حتى ننتهي منها، وبالمقابل فإن منطقة الشمال السعودي لم تحتج أي مجهود منا فقد كانت سهلاً منبسطاً لم نضع أي قطعة إضافية ولم تكن بحاجة إلا لتلوينها باللون الأصفر الذي جعل منها مساحة هائلة للحياة والموت! استمتعت كثيراً وأنا “أدهنها” باللون الأصفر الفاقع الجميل، أنها أرض أجدادي البُداة الذين أغتالتهم المدنيّة. مكثت أنا وزميلي لأكثر من شهرين ونحن نعمل بمعدل ثلاث حصص أسبوعياً وهي حصص النشاط وأوقات متفرقة نسرقها من وقت “الفسحة” القصير وكذلك حصتي الإملاء والخط والتي كان من المفترض أن يدرسنا فيهما مدير المدرسة!

كانت نهاية العمل في اللوحة هو يوم الأربعاء، فقال لي الأستاذ صلاح بأنه سيتم كتابة اسمي واسم زميلي على اللوحة وسيكرمنا مدير المدرسة يوم السبت أمام الطابور الصباحي مع هدية عبارة عن طقم قلم باركر، والذي كان امتلاكه حلماً جميلاً لكل طالب في ذلك الوقت.

جاء يوم السبت، على غير عادته، بطيئاً وأنا أتوثب للتشرف بالسلام على مدير المدرسة والاستماع لأسمي الثلاثي يتردد في أرجاء المدرسة وأتخيل كيف سأضع قلم الباركر في جيب ثوبي العلوي وكيف سأعود للبيت وأُريه أهلي ومدى فرحتي المرتقبة بمفاجأتي لهم بمثل هذه المفاجأة النادرة في ذلك الزمن!

بدأت الإذاعة كالمعتاد، القرآن كريم ثم الحديث الشريف وبعد نهاية الفقرات أتى دور التكريم. بدأتُ أتأهب للانطلاق وأنا أتحدث مع زميلي، الذي كان يقف بجانبي ويتأهب مثلي، عن لون قلم الباركر هل هو أسود أم أزرق! تفاجأت باسم أمين المجموعة يدوي عبر مكبرات الصوت في أرجاء المدرسة، يدعونه للتشرف بالسلام على مدير المدرسة ويستلم الجائزة منه وهي عبارة عن طقم أقلام باركر وهو يقدم له اللوحة وهي ممهورة باسمه! صعد “أمين السر” وهو يسير بطريقة واثقة ويلبس ثوباً عديم اللون أو هكذا تخيلته لحظتها. يُعطي المدير اللوحة ويتسلم منه طقم أقلام الباركر وهو يدير وجهه لطلاب المدرسة الواقفين في الطابور الصباحي وترتسم على محياه ابتسامة النصر بإنجازه العظيم، إنجازه العظيم المسروق!!

أخرستني المفاجأة وأنا أقف في طابور المدرسة، كان صدري يكاد أن ينفجر بسبب الحرارة التي أصبحت تتقد داخله!

الحصة الثالثة في ذلك اليوم كانت حصة الجغرافيا، دخل أستاذ صلاح وهو يبتسم ويشكرني أنا وزميلي، لم أرد عليه أو أسأله، ولكن زميلي الذي كان غاضباً سأله بغضب: “وليه ما كرمنا المدير يا أستاذ، وليه اسم فلان على اللوحة وهو ما أشتغل فيها”؟؟ابتسم الأستاذ صلاح ابتسامة بلهاء لا معنى لها وهو يقول، “فلان هو أمين المجموعة وهو بصف سادس وأكبر منكم ولازم يكون التكريم لكم باسمه وتكريمه يكون تكريم لكم جميعاً”! شعرت بداخلي بصرخة في داخلي كصرخة المطعون من الخلف غدراً وهو يحاول أن يلتقط آخر أنفاسه متسائلاً: “ليه طيّب”؟

“ليه طيّب”؟ لا زالت وبعد مرور كل هذه السنوات الطويلة تسترجع صوتها بين فينة وأخرى عند مرور موقف مشابه لذلك الموقف! غضبت ولكني كتمت غضبي والمدرس يحاول أن يسترضيني بأنه سوف يشتري لنا هدايا خاصة تعبيراً عن شكره لجهودنا وامتنانه. شكرته وأخبرته بأنني لن أقبل إلا هديتي من المدير، وأخبرته أيضاً بأن غضبي الأكبر ليس لعدم إعطائي الجائزة لأنني لم أعمل من أجلها، وإنما لأن الجائزة ذهبت لمن لم يفعل شيئاً فالطالب لم يدخل المعمل لحظة واحدة فكيف يحصل على الجائزة؟!

منذها ترسخت كراهيتي الشديدة لشيئين؛ كلمة “أمين”، و”العمل الجماعي” غير واضح المهام والاختصاصات!

لا أتذكر إلى هذه اللحظة بأنني قد شاركت بأي عمل جماعي كبير آلية عمله غير معروفة، بل أنني أنفر بشدة من جميع الأعمال الجماعية مهما كانت ما لم تكن محددة المسؤوليات والمهام بطريقة واضحة جداً! وأيضاً اقتنعت بأن من يسيء إلينا أو تكون الإساءة إلينا عن طريقه، حتى لو لم يعلم، لن ننساه! سيختزنه العقل الباطن طويلاً وسيسترجعه عند أول حالة تذكر للموقف أو ما يشابهه من المواقف. أيضاً عرفت بأن كثير من نكون معهم مدة طويلة وتكون علاقتنا بهم عادية أو تحت ما يحكمه ظروف العمل أو ظرف المكان والزمان، سُرعان ما ننساه، لذا إذا أردتم أن تبقوا في ذاكرة الآخرين طويلاً أزرعوا وجوهكم وأسماءكم فيها بأفعال أو أحداث أو قصص يكون وقعها قوياً في ذهن المتلقي بشرط أن تكون من النوع الجيد أو على الأقل غير المؤذي! فإذا لم تستطيعوا فعل ذلك فكونوا كزميلي، الذي جمعني به مكان العمل لشهرين تقريباً ومع ذلك لم تحتفظ ذاكرتي لا باسمه ولا رسمه، كونوا كـ أياه تمرون خفيفاً على الذاكرة لا تؤذون أحداً ولا تتركون في قلبه ندبة سوداء تنبض بالألم كلما مرّت على الذاكرة أسمائكم!

في محاولة كتابة سبعة رسائل إلى أمي!

 

في محاولة كتابة سبعة رسائل إلى أمي!

 

1- الرسالة الأولى: في معنى النسيان وأزمنته السحيقة:

منذ أن كنت طفلاً صغيراً يا أمي وأنتِ تنصحيني بأن لا أبكِ، وتوبخيني عندما لا أستجيب لنصيحتكِ وتعنفيني أكثر وأنتِ تخاطبيني قائلة بأنني رجل وأن البكاء لم يخلق للرجال!. والله يا أمي تقيدت بنصيحتكِ كثيراً حتى أن والدي رحمه الله عندما لوّح لي تلويحته الآخر وغادر وأنا أحاول تفسير نظراته الأخيرة، وهم ينعشون قلبه الذي توقف، لي لم أبكِ عليه لحظتها، تذكرت عبارتكِ بأن الرجل لا يبكي فأنكفأ الدمع للداخل ببساطة!. خرج كبير الأطباء من غرفة العناية المركزة التي مُنعنا من دخولها وأخبرني بفشلهم في انقاذ حياته وأن ذلك القلب الذي أعطى كثيراً وسامح كثيراً وغفر أكثر قد وصل لمحطته الأخيرة وآن له أن يرتاح ولذلك توقف عن النبض!. قدم لي واجب العزاء ذلك الطبيب فتقبلت العزاء وقبله الخبر بنفس راضية وأنا استرجع وأحوقل وأفكر بكِ وكيف ستتقبلين الخبر بأن رفيق عمرك لأكثر من خمسين عاماً قد تركك في لحظة سهو منكِ!. وقتها يا أمي كان ما يسيطر علي أنا وأشقائي والأقرباء الذين أحاطوا بنا عند غرفة العناية المركزة هو كيف ننقل الخبر إليكِ. لم يجرؤ أحد منا على فعل ذلك، أستعان الأقرباء ببعض القريبات لكي ينقلن لكِ الخبر الحزين، ولا أدري كيف فعلن ذلك والله.

أنا يا أمي وعدتكِ بأشياء كثيرة، ولكن الشيء الوحيد الذي لم أعدكِ به هو البكاء عندما تغادرينني للمرة الأخيرة، ولذلك بكيت/ لأكثر من خمس دقائق حتى تحول بكائي لنحيب، على كتف صديقي كطفلٍ صغير فقد أمه وحليب أمه ورائحة أمه وصدر أمه وطمأنينة أمه، بكيت ولم أنتهِ من البكاء من تلك اللحظة إلى الآن!.

 

2- الرسالة الثانية: في معنى الحنين وخناجره المتجددة:

لا أدري كيف أخبركِ يا أمي بأنني أراكِ في كل شيء، أراكِ في وجه ابنتي الصغيرة وفي يديها الصغيرة وفي أنفها الأجمل، يا أمي أفكر في أن أخرق أنفها لأضع لها زماماً يشبه زمامكِ الذي كنتي تزينينه أكثر مما يزينكِ!. ذلك الزمام الذي فشلت جدتي “الحجية”رحمها الله في نزعه من مكانه عندما أتاك الطلق بأخي الصغير الحبيب “القعدة” والذي نال لقب “بستان القلب” عن جدارة. لا أتذكر من كان يحملك وقتها لسيارة الفولكس واجن الصغيرة للذهاب بكِ إلى المستشفى، فوالدي لا يمتلك سيارة ولا أظن بأنه كان موجوداً وقتها، من “خالفة المحَرَمْ” في بيت الشعر الذي جعلتيه في أعيننا قصراً كبيراً وجدتي تركض معهم وهي تنزع “مجولين” من معصمك وخاتم ذهب وآخر فضة. بعد عمر طويل سألت جدتي رحمها الله لماذا كانت تصر على نزع “الزميّم”، قالت لي بأنه هدية من والدي لأمي وأنها تخاف أن يُنزع منها في المستشفى ويختفي بعدها!. أفكر في ابنتي وأتراجع لأن زمانها مختلف جداً عن زمني وزمانكِ.

أراكِ في صحن “رز أبو بنت” وأنت تقومين بتنظيفه بعد أن يذهب أخواني في الصباح للمدرسة وتزيلين الورق الصغير المرسوم عليه وجه بنت وأنا بجانبكِ أقوم بتجميع الصور الصغيرة وأصنع منهن شقيقات صغيرات يلعبن معي حتى عودة أشقائي من المدرسة. أنتِ الذي لم يشاء الرحمن أن يرزقكِ ببنت كما كنت تتمنين!.

أراكِ في حليب الزنجبيل الذي أحرص على تناوله كل شتاء لا لشيء إلا لأنه يشعرني بأني لازلت قريباً منكِ،قريب إلى حد أنني استشعر كلماتكِ لي ما بين المتوددة والمتوعدة وأنت تطلبين مني تناول الكوب الثاني من الحليب قبل أن أغادر صباحاً للمدرسة وأصبح تحت سطوة شوارع طريف الباردة و”الحليت” الذي يكاد أن يخترق الدماغ عندما تلامسه الأقدام شبه العارية!.

أراكِ في “شوربة الجريش” في رمضان وأنت تقومين بتجهيزها قبل الظهر وتضعينها على النار بعد صلاة الظهر وتراقبينها على النار الهادئة كطفلِ وحيد تولينه كل اهتمامك ومشاعركِ.

أراكِ في “المغزل” و”النطو” وكيف تغسلين الصوف ومن ثم تنشرينه لأيام وبعدها “تنفشينه” بالخيزران ليتخلص من “الحسك” والوسخ الذي لا يزال موجوداً فيه وبعدها يأتي دور المغزل والغزل وغناءك بصوتك الخفيض الجميل بلحن يفشل أعظم موسيقيّ العالم أن يتمثله في مخيلته. هذا الغناء الذي سألتك عنه قبل سنوات من رحيلك فلم تجاوبيني كعادتك عندما أسألك عن كل ما يجلب لك الحنين والوجع لأيامٍ لن تعود. رحلتي وتركتي لي الحنين والوجع وخناجرهما المتجددة يا أمي!.

 

3- الرسالة الثالثة: في معنى التخلص من أشياءك القديمة:

نسيتي أشياء كثيرة داخلي، ولا أدري هل أنا دقيق في اختيار كلمة “نسيتي” أم أنكِ تركتيها عمداً لكي أستذكركِ في كل صباح وأشاهدكِ وأنتِ “تعجنين الطحين وتوقدين الحطب وتضعين الصاج عليه والعصا بجانبكِ لكيلا أقترب إليكِ خوفاً من أن أقع في النار!. كنت أريد أن أخبركِ بعد أن كبرت بأن خوفكِ علينا كان مرضياً، لكنني فشلت في مرات كثيرة والله!. حتى عندما ذهبت للدراسة في الرياض أو كما تسمينها لـ “ديرة الغربة” كنت استشعر ذلك الخوف في نبرات صوتكِ عندما أحادثكِ عبر هاتف العملة والذي نعاني في إيجاد العملة المعدنية حتى نستطيع الاتصال وبعدها نعاني في إيجاد هاتف صالح للعملة ولا يكون مزدحماً بمن يكاد يفضحهم الشوق وهم يرسلون مشاعرهم عبر هذه الأسلاك اللامتناهية الامتداد!.

لنعد لخبزكِ على الصاج، صح، أنا يا أمي كثيرة هي فواصلي في الحياة والأكثر منها الجمل المعترضة الطويلة التي أكتبها أو تكتبني، أشعر كثيراً يا أمي بأن حياتي جملة معترضة طويلة لا بداية لها ولا نهاية، غير مفهومة، مليئة بالفواصل وتكاد أن تنعدم فيها النقط!. أعلم بأن من يقرأ هذه اللحظة هذه الأحرف سيصاب بالدوار لأنه لن يفهم شيئاً وربما سيقفل المتصفح، ولا ألومه كثيراً لو فعل ذلك، فأنا والله لا أدري إلى أين ستنتهي بي تلك الفواصل اللعينة وتلك الجمل المعترضة اللانهائية!.

ما هذا العبث؟، لنعد للحديث عن خبزكِ للصاج، تتذكرين ذلك يا أمي، كنتِ تقومين بتقطيع العجين لأقراص صغيرة وبعدها تأخذين القرص وترققينه بيديكِ الجميلتين وما أن يكبر قليلاً حتى تقومي بتقليبه بين كفيكِ ومع كل حركة يزداد حجم القرص ويصبح رقيقاً أكثر، تستمرين بعملية نقله من كف لآخر بمهارة عجيبة لا أعرف إلى الآن ما هي طريقة عملها الصحيحة وأنا المولع بمعرفة كيف تتكون الأشياء، وبعد أن يكبر تستعينين بساعديكِ ليزداد حجم الرغيف لأكبر قدر ممكن وبعد أن يصل لمنتهاه في الحجم تضعينه بخفة على الصاج في عملية لا استطيع تشبيهها الآن إلا برئيس فرقة أوركسترا  يشير لفرقته الموسيقية  الكبيرة فتتحرك متسقة وبنغم واحد!. تقومين بتقليب الخبز والذي يبهرني عملية نضجه وكيف يتحول العجين من وضعيته الرطبة إلى شيء أصلب قليلاً مع ليونة عجيبة وبخار الماء الذي يتصاعد إلى الأعلى إلى أن يختفي وتتحول رقاقة العجين إلى خبزة شهية. كان أكثر ما يعجبني في الرغيف تلك النقط السوداء الخفيفة التي تتكون عليه. كنتِ تعرفين بأنني أحب طعم الخبز الساخن فتعطيني قطعة من الرغيف الثاني، وأنتِ تقولين: “يا وليدي الرغيفة الأولى ما هي لك”!.

أخبرتيني لاحقاً بأن المرأة “الجيدة” هي صاحبة الرغيف الكبير وغير النيء أو المحترق، وأشهد شهادة حق لك يا أمي، أنكِ امرأة “جيدة” بكل ما تعني هذه الكلمة في لهجتكم اللذيذة من معاني.

 

4- الرسالة الرابعة: في معنى “وش يعرّفك؟”:

وهذه “لزمتكِ” المحببة إلى قلبي والتي تلجئين لها عندما أناقشكِ وترفضين الاقتناع بكلامي وتصرين على رأيكِ وتنهين النقاش بـ: “أنت وش يعرفك يا وليدي، تراك تو طلعت للدنيا”!. كنت في مراهقتي أغضب وأحاول أن لا يخرجني غضبي إلى دائرة العقوق، وعندما تعلمت، أو هكذا ظننت، شعرت بأنني يجب أن أواجهكِ بعدم صحة كلامكِ دائماً. عندما تكاثرت أمراضكِ أوكلت لي مهمة متابعة حالتكِ الصحية وتوفير الأدوية خاصة وأنني صيدلي ويفترض أنني أفهم على الأقل في مجال الأدوية ومع ذلك لم تصدقيني في يومٍ ما بشأن نصائحي لكِ وتوجيهاتي الطبية!. كانت أقرب امرأة تزوركِ وتعطيكِ أي معلومة بخصوص دواء معين إلا وتتمثلينها وكأنها اليقين وأفشل بتغيير فكرتكِ عن ذلك الدواء سلباً أو إيجاباً وتعيدين على مسمعي: “أنت وش يعرفك يا وليدي، تراك تو طلعت للدنيا”!. حتى أتى ذلك اليوم الذي نصحتكِ بعدم تناول علاج معين ولكنكِ رفضتي وحدث ما كنت قد قلته لك حرفياً، ومنذها أعطيتيني “الخيط والمخيط” كما عبرتي يومها في ما يخص الأدوية. فرحت والله بتلك المنحة وكأنها كانت تعني تخرجي من الكلية في ذلك الوقت. كان ذلك فقط في مجال الأدوية أما بقية النقاشات التي تدور بيننا فتحضر الجملة القاطعة والتي أحببتها في سنواتكِ الأخيرة وصرت أستعذبها منكِ: “أنت وش يعرفك يا وليدي، تراك تو طلعت للدنيا”!.

فعلاً يا أمي، أنا أعترف لكِ هذه اللحظة، أنا الولد المتحذلق، مدعي الفهم، الولد الذي دائماً ما يشاغبكِ، أنا الولد نفسه الذي يعترف لكِ الآن بأنه فعلاً لا يعرف شيئاً!.

 

5- الرسالة الخامسة: في معنى أن تحاول قول الشعر وتفشل:

أمي، كوالدي رحمه الله وككل بدوي، أمتطى ظهور الإبل على ما أظن، يقول شعر الهجيني، وأظن بأن الأمر له علاقة بحب البدوي لناقته من جهة ولحب الناقة للأرض التي تسير عليها فتتهادى الناقة على الأرض وهي تسير عليها وكأنها تغازلها بأخفافها “الخفيفة” فتنتج ألحاناً يسمع البدوي همسها وحنينها فيضطر للتعبير عن شعوره بكلمات تتماهى مع ذلك اللحن فتخرج منه على شكل كلمات موزونة وبدون حتى أرادته!.

استطراد غبي لكن لا مانع من محاولة التماهي مع ذلك الغباء بود، أرجع لمحور حديثي، كانت أمي ولأنها حتى عندما تخلت عن حياة البادية ككثير ممن جايلها قد احتفظت بأعماقها بخطوات ناقتها ومعزوفاتها التي تخرج من أعماق العقل الباطن فتلقي عليها كلمات كيفما اتفق فتزهر تلك الكلمات شعراً جميلاً!.

في أحد المرات وأنا استعد للسفر للرياض للعودة للجامعة ناولتنيي ورقة بخفية عن بقية العائلة واستحلفتنيي ألا أفتحها إلا عند وصولي لغرفتي بالسكن الجامعي في جامعة الملك سعود. عندما وصلت للسكن كان أول شيء فعلته بعد أن دخلت غرفتي أن رميت حقيبتي من يديي وأخذت الورقة من جيبتي وفتحتها فإذا هي “هجينينة تتكون من خمسة أبيات منها:

يا طايرة لا تطيرني

شوفي بعيد المسافاتي

أبيك لوليدي توديني

سكن بديارٍ غريباتي

لم استطع أن أرد عليك ببيتٍ واحد!. ومنذها عرفت بأنني لست بشاعر وأن كتبت “خرابيش” كثيرة وسميتها شعراً وربما أعجبت البعض هنا أو هناك!.

الأهم يا أمي، اعتقد بل وأجزم بأنكِ تعلمين بأنني لم أرثكِ بقصيدة ولم أكتب برثائكِ أي شيء آخر غير الشعر، فقط كتبني البكاء، وأظنه أصدق من الشعر، وكذلك كتبني الصمت وأجزم بأنه أصدق من الكلام!.

يا أمي تفهمين حديثي، صح؟، سأكمل بفواصلي اللامتناهية. اعترف بأنني بعدكِ كتبت ألاف القصائد السخيفة ومئات الصفحات من النثر الأكثر سخفاً ومع ذلك لم أفكر يوماً في كتابة ما تستحقينه من رثاء!.

 

 

6- الرسالة السادسة: في معنى الفراغ الذي يتألم:

“……………………………………………………………………………………………………….”!.

 

 

7- الرسالة السابعة: في معنى أن تحاول الكتابة وتفشل:

تتذكرين ذلك؟، مؤكد بأنك تتذكرين مدى غضبكِ مني وأنا أقرأ على الضوء الخافت وأنت تؤنبيني بأن “هالأبيض يا وليدي ترى يسرق الشوف، ترى شوفك يسرّب وأنت ما تدري”!. لكن ما لا تعرفينه بأنه قد حدث ما كنتِ تتخوفين منه، لقد “سرّب الشوف” واحتجت للبس نظارة لأجل القراءة، الآن لا استطيع أنا أقرأ حرفاً واحداً من دونها!. أيضاً عندما أفشل في فهم بعض كلامكِ الموارب وألغازكِ وأسألكِ عن المعنى فتجيبيني بمرارة:” هالجيل ما يعرف قفو الحتسي، ما يعرف إلا هالأبيض بالأسود”!. أنا يا أمي هذه اللحظة لا أعرف “قفو الحتسي” كما أنني لا أعرف الكتابة وأفشل كثيراً في قول ما أريد قوله، ولا أتذكر بأنني، من بعد مغادرتكِ قد كتبت شيئاً وأعجبني، كل ما أكتبه أراه مسكون بالنقص ولا أدري لماذا؟!

كنتِ تشجعيننا على طلب العلم والدراسة وأنت الأمية التي رحلت وهي لا تعرف كيف يكون شكل حرف الألف!. ومع حرصكِ على تعليمنا كنت لا ترين بأن التعليم “المدرسي” الذي نتعلمه هو التعليم الحقيقي بل تريدنا أن نتعلم من الحياة للحياة، وعندما تغضبين منا بسبب سوء تصرف أو سوء تقدير أمر من الأمور كنت ترددين: “كف حلّا، والله ما تعرفون كود هالأبيض بالأسود” كناية عن الكتابة على الورق!.

مضى العمر يا حبيبتي وأنا لا أعرف أن أعبر عما بداخلي بصدق، كل ما أكتبه هو فوضى وهباء، كل ما أكتبه، وخير مثال هنا، هو مجرد “لا شيء” مقارنة بما أريد أن أكتبه في مخيلتي!.

مضى العمر يا حبيبتي دون أن أخبركِ كم كنت أحبكِ، وكم كنت “اشتاقكِ”، وكم كنت أهابكِ، وكم كنت أخاف أن أغضبكِ، وكم كنت عاقاً في الاهتمام بكِ، مضى العمر يا أمي وأنا لا استطيع كتابة رسالة بسيطة لك، مجرد رسالة بسيطة!. أنا “مكسور”يا أمي، “مكسور” أكثر من جميع”الكسرات” التي حاولت أن أضيفها لكِ يا أمي!.

 

 

  • هامش أكبر من نص:

أظنه حان الوقت لأعترف لكِ:

أنا يا أمي لا أعرف الكتابة، ولأجل ذلك سامحيني لا استطيع الكتابة لكِ!.