في رثاء رجل لم يكرهه أحد!

فقدت اليوم مدينة القريات أحدى رجالاتها الكبار، والذي لطالما ما كان منبرًا للحث على الخير والتقوى. لأكثر من ثلاثين عامًا كان يقف فيها على منبر الجمعة، الذي يتوافد له الناس، وخاصة البسطاء منهم، من كل حدب وصوب ليستمتعوا بخطبته. تلك الخطبة الواعية والتي دائمًا ما تتنزل لفهومهم بلغة فصيحة مبسطة وبأسلوبٍ جميل، وتُجيب على تساؤلاتهم وتمنحهم ما يريدونه من فهم وفقه في أمور دينهم ودنياهم.

كنت لا أترك صلاة الجمعة عنده إلا إذا كنت خارج المدينة، آتي له من منزلي البعيد وأتمعن ليس في خطبته وما تحتويه من توجيه ونصح وحث على الخير والصلاح والتقوى، بل أتمعن في أسلوبه الجميل وانتباهه إلى أن أكثرية المصلين في الجامع هم من كبار السن البدو الذين لم يتعلموا القراءة والكتابة أو ينالوا نصيبهم الكافي من التعليم. ولهذا فقد كان يبتعد في الخطبة عن وحشي الكلام والتقعّر في اللغة فيختار ما فصح من اللفظ وما فُهم لدى العامة ليحمّله المعنى المراد بكلامه دون زيادة ولا تقصان!

أما تلاوته للقرآن فقد كانت، بالنسبة لي، قادمة من عالم آخر. فلم أسمع في حياتي من يقرأ بطريقته أبدًا، فهو عندما يبدأ التلاوة يبدأ بصوتٍ هادئ وخفيضٍ جدًا لا يكاد أن يُسمع ما يلبث أن يرتفع تدريجيًا، وكأنه لا يتلفظ بالآيات بلسانه بل يمتاحها من جُبّ روحه المؤمنة ليفيض على أسماعنا بفيوض السكينة والطمأنينة. يقرأ بهدوء وطريقة عجيبة وسكينة لا أتذكر بأني استشعرتها مع غيره. وكأنه حينما يقرأ ينفصل عن محيطه الخارجي وينغمس في تدبر ما يقرأ.

عندما توفي مؤذن مسجده بعد مرافقته لما يقارب من العشرين عامًا، وفي خطبة الجمعة التي تلت وفاته، خطب الخطبة وكان صوته قد اعتراه الوهن، ولم أكن أعلم عن وفاة المؤذن رحمه الله، وفي الخطبة الثانية نعى المؤذن لجموع المصلين وعندما بدأ يتحدث عن صفاته وعلاقته به وبالمسجد أجهش بالبكاء، وأكمل خطبته بعد لأي. لم أنسَ ذلك الموقف له، والذي دلني على صفة جميلة قلّ من يمتلكها هذا اليوم وهي وفائه الشديد لمن كان معه في وقتٍ لم يكن من المتعارف عليه أن يتحدث خطيب المسجد عن مثل هذه الأمور أو العلاقات على منبر الجمعة.

لم يتخرج ذلك الرجل الفقيه من جامعة ولا مدرسة نظامية، بل تخرّج من مدرسة الحياة وشق دروب الحياة وحفر الصخر بيديه ليبني نفسه، معتمدًا على الله سبحانه وتعالى فقط، بكل جدارة ممكنة مكانًا، بين الناس، لم يدانيه فيه من جيله أحد من الذين عاشوا في نفسه ظروفه وعانوا كما عانى. فقد كان عصاميًا منذ الصغر، فعمل في بواكير شبابه الأولى في مجال البناء والمقاولات في حفر الباطن ثم انتقل بعد فترة من الزمن، حسبما روى لي، إلى القريات واستقر بها. كان طوال الوقت يقرأ ويُعلم نفسه بنفسه حتى وصل لما وصل من علم وفقه.

سمعت اسمه في مجلس والدي غفر الله منذ طفولتي فأحببته لسيرته العطرة دون أن أراه، وعندما كبرت وأصبحت أصلي الجُمع عرفته فأحببته أكثر ولزمت جامعه لا أفارقه، وعندما أصبح جار لنا أحببته أكثر فأكثر. كان مُهيبًا في هيئته، صاحب وقار وسمت عجيب، حيي في حديثه، لا يرفع صوته كثيرًا، ولا يقترب من وحشي الألفاظ. لا يغتاب أحدًا ولا يذكر، حتى لو بالرمز مثالب جماعة ما وإن لم يسمهم بأسمائهم.  كان نقي العرض، نظيف القلب، طاهر السريرة. لم أسمع منه لا في منبره ولا مجلسه نبّوة أو حتى زلّة مهما بدت تلك الزلة صغيرة جدًا. حريص على كلامه، يختار لمعانيه التي يريد أجمل الألفاظ لكي تصل للمتلقي بأبسط صورة ممكنة وأكثر ما يتطلبه الوضوح.

أفرح كثيرًا عندما يزورنا وأكون موجودًا في المجلس، لكنه كان لا يتحدث كثيرًا، ولكنه إذا تحدث أخذ بلُب سامعه بحسن حديثه، حسن وصفه لما يتحدث عنه وصياغته الجميلة للموضوع، والتي تجعل المستمع إليه لا يتمنى أن ينتهي من حديثه إلا ليكمله بحديث آخر! وصوته في الحديث يُشابه صوته في قراءة القرآن، فهو خفيض وندي وفيه بحة جميلة تسيطر عليه أحيانًا فتمنحه ذلك الجرس الموسيقي والذي يستقر في روحي قبل أذني. وهو عندما يتحدث حديثه العادي، ينحى فيه إلى الفصحى السهلة المفهومة لدى الجميع.

في السنوات الأخيرة وعندما تكاثرت الأشغال وقلّت بركة الوقت، كنت أتحين وقت صلاة المغرب إذا كنت في نفس الحي فأصلي معه وأسلم عليه. دعاني عدة مرات لمجلسه لتناول القهوة، ومن حسن حظي كنت في تلك المرات لوحدي، فلم يشاركني أحد لذة الحديث معه ومطارحته الأسئلة والأفكار. وعندما أخرج من عنده تبقى أحاديثه في الذاكرة لأيام طويلة أفكر فيها، وفي شخصيته الفريدة البالغة البساطة، وكأن الشيخ رحمه الله جسّد معنى عظمة الأشخاص الكاملة ببساطته التي لا ينافسه فيها أحد.

إنه الشيخ صاحب الوجه الوضيء، التقي، الورع، الكريم، العفيف، الشيخ [عبدالله جروح] إمام جامع صخر السديري السابق في حي الفيصلية بالقريات. فإلى رحمة الله، يا أبا ماضي، وعفوه وغفرانه، أسكنك الله الفردوس الأعلى من الجنة بلا حساب أو عقاب.

هذه الكتابة عن أبي ماضي ليست من باب الرثاء، فأنا أقل من أن أرثيه ذلك الذي الرثاء الذي يستحق، ولا من باب المديح والذي لا أجيده أبدًا، بل هي غصة تكاد أن تخنقني مُذ قرأت خبر وفاته والذي وصلني ضحى هذا اليوم فجعلني أتسمّر مكاني لدقائق طويلة وأنا استعيد قصص ومواقف ذلك الكريم، فلم يكن لي من الأمر بُد من إراقة هذه الأحرف الهزيلة لمحاولة التعبير عما بداخلي من حزن لا استطيع التعبير عنه.

هذه الكتابة مرة أخرى، هي كتابة مبعثرة، لا ناظم لها سوى ذلك الخيط الكبير الذي تركنا في وعثاء الحياة وغادرنا إلى ربٍ كريم، لطيف، رحيم وسعت رحمته السماوات والأرض، ولهذا أتت وكأنها نفثة مصدور، وغصة قلب، وحشرجة روح! فبارك الله فيمن قرأ وغفر ما رأى من هفوة وزلة لمن كتب، وأطلق الدعوات تُترى بالرحمة لأبي ماضي، ذلك الرجل الذي لم يكرهه أحد.

الكاتب: عبدالعزيز الرويلي

عابراً في مفازة الكلام، أحدو خلف نياق المعنى في التيه! aazizrowiliy@gmail.com

6 رأي حول “في رثاء رجل لم يكرهه أحد!”

  1. جزاك الله خير. ورحم الله ابو ماضي واسكنه الفردوس الأعلى من الجنة.
    لقد عبرت عن مشاعر كثير ممن عرف ابو ماضي حيث ان الرجل ترك اثر في جميع من عاصره. بحيث يتفق في ذلك الآباء وأبنائهم.

    Liked by 1 person

    1. وأياك أيها الكريم
      رحمات الله تتنزل عليه تُترى
      أسأل الله الكريم الرحمن الرحيم اللطيف الخبير في هذا اليوم المبارك أن يغسله بالثلج والبرد وينقيه من الذنوب والخطايا كما يُنقى الثوب من الدنس، وأن يجعل قبره روضة من رياض الجنة وأن يُدخله الجنة يلا حساب أو عقاب، ويجعل مستقره في الفردوس الأعلى من الجنة، آمين.

      إعجاب

  2. جزاك الله خير الجزاء على هذه الكلمات اللطيفة الغارفة من القلب النابضة بما في قلوب الجميع.
    فسبحان من جمع القلوب على محبته.
    رحم الله شيخنا الجليل الناصح الحكيم ابو ماضي رحمة واسعة وأسكنه الفردوس الأعلى من الجنة نزلا من غفور رحيم

    Liked by 1 person

  3. جزاك الله خير الجزاء، ما كتب من القلب يصل إلى القلب وما كتب من اللسان لا يتجاوز الأذان.
    كلمات صادقة من رجل صادق عبرت بها عما يدور في وجدان الكثير منا
    نسأل الله تعالى الرحمة والمغفرة لابو ماضي

    إعجاب

أضف تعليق