قراءة أولى لـ لحظة هاربة من حياة فتاة بدوية!
الإهداء:
للروح القادمة من الأعماق، تلك التي تأخرت عمراً بأكمله، تلك التي صبّت سحابتها في قلبي قبل أن….!
في الكتابة عما “قبل الـ قبل”:
والله لولا الحيا لا أصيح
ياما الحوادير ييتوني
والضرس عذرٍ عن التبييح
ما وديّ الناس يدروني
في الكتابة عما قبل:
هي الأيام، هي الأيام الغادرة، هي الأيام العاشقة، هي الأيام المولعة بسرقة القلوب، هي الأيام المتلهفة على خيانة الأحباب وتفريقهم وتشتيت شملهم وموت أملهم وتفرق جمعهم وتزايد همهم وغمهم! نفسها تلك الأيام التي ابتسمت لهم سابقاً وأسعدتهم وأفرحتهم وأضحكتهم وأنستهم وآنستهم وزرعت الورد في دروبهم ونزعت الشوك من قلوبهم!
تلك الأيام هي نفسها ولكن ما يميزها، أو ما تُحاول هي أن تُميز نفسها به، أنها متلونة وتأتِ بألف وجهٍ ووجه! وجه الحبيب الذي لم تكن تأمل برؤيته حتى في المنام ووجه “البغيض” الذي تكرهه وتتوجس من حضوره، وتتمنى لو أن بينك وبينه بعد المشرقين عن المغربين. هي نفسها تلك الأيام التي نحبها ونتمناها ونغازلها ونعشقها ونبحث عن رضاها حتى وإن غضبت منا وجفتنا!
يضيع الكثير من العمر بين ما نتمنى أن نعيشه وبين ما نعيشه فعلاً، ولذلك لا أجمل من تلك العبارة التي أراقها إنسان عزيز على قلبي في أذني وروحي: “لا أعرضت لك “الوناسة” لا تخليها”! وقعت تحت خدر تلك الجملة بسيطة اللغة وعميقة المعنى لعدة أيام ولا زالت تحفر في العمق بحثاً عن وميض أي “وناسة” قادمة لأتشبث بها وأعانقها حتى لو كانت من الماضي السحيق. و”الوناسة” هي السعادة استطيع أن أعرفها بأنها: “مرحلة السعادة القصوى”. وما أجمل أن تكون السعادة بقرب من نحب ونهوى ونتماهى معه ونشعر بوجودنا معه، وأن وجودنا قد أُعيد تشكّله وأتخذ بسببه ذلك المعنى الكامل الذي كنا نبحث عنه ونتمناه!
في زمن “ما قبل القبل” كان “الهوى” أي العشق مباحاً في المجتمعات البدوية الرحالة ومجتمع قبيلة الرولة أحدها، بل أنه من غير المستغرب أن يكون فلان “هويّ” فلانة أي حبيبها والجميع يعلم بذلك “الهوى” وربما تغزل باسمها دون أن يحدث له مكروه، على أن ذلك “الهوى” له ضوابطه المعروفة وعلى رأسها عدم حدوث التلامس بين العاشقين فلربما كانا في مكان واحد ويمكثان أيام طويلة بدون لقاء إلا إذا لمحها مصادفة عند “القليب” أو “الغدير” قد أتت “روّايّة” لجلب الماء إلى أهلها. وكان أعظم شرف قد يناله الحبيب من حبيبته، هو أن تسمح له بشرف مساعدتها في حمل “راوية الماء” أو القِرْبَة الثقيلة لوضعها على الجمل المخصص لنقل الماء، فهذا الشرف يجعله يعيش لأيامٍ طويلة وهو يلتذ بتلك اللحظة ويتباهى بها أمام أقرانه. أو قد تكون ذهبت مع صويحباتها “حطّابة” تجلب لأهلها ما يحتاجونه من حطب فيصادفها ويتبادل معها كلمات عجلى تتفتت حروفها بينهم قبل أن تصل لأسماعهم.
كل هذا يتعامل معه المجتمع البدوي بطريقة مبسطة ويغض النظر عنه ما دام في حدوده المعروفة في مجتمع تكون فيه “ثيمة الشرف” حداً لا يمكن التهاون فيه إطلاقاً!
في كتابتي هنا لا أدعي سعيي إلى توثيق تلك الحياة الذاهبة ولا إلى تمجيدها وتقديم المبررات إلى القراء بصوابيتها من عدمها أو حتى نقدها، وإنما لوصفها بطريقة مبسطة لعل قراء هذا الجيل يستوعبونها بعيداً عن النظرة الانطباعية المسبقة التي يعيشونها حالياً لتفسير أو تعريف مفهوم العلاقة بين الرجل والأنثى خارج إطار مؤسسة الزواج! أنا هنا اقتنصت لحظة ميتة من تلك الحياة الذاهبة وحاولت نفخ الروح فيها وإعادتها للحياة ولو في قلوب وعقول وذاكرة من يقرأ هذه الأحرف!
في الكتابة عما بين:
الأبيات أعلاه هي هجينية لفتاة رويلية عاشقة، خانها الرواة فخبئوا اسمها في حرزٍ عميق فلم نجده! كانت خطواتها، عندما تسير في أرض الحماد أو النفود، تغرس بذور النويّر والديدحان والقحويان خلفها وتترك لعبقها والمطر مهمة أنباتها! عشقت هذه الفتاة، والفتاة البدوية بالمجمل عندما تعشق “تهيجن” و”تهيجن” و”تهيجن” إلى أن تشاركها النياق التي ترافقها والغزلان التي تجاريها من بعيد “هجينيتها” ومع كل آهة تطلقها الفتاة تشعر الغزلان بأمان أكثر وتقترب منها أكثر وهي تستشعر معنى ذلك الأمان الجميل بقربها! “هجينيتها” تلك تهتز طرباً لها “أم سالم” وتتوقف عن الغناء وأن يستكن القطا في أمكنته ويستمع بكل حب لـها وقد نسي تماماً صيحته المشهورة عندما يطير” قطا قطا قطا” وتتمايل زهور القحويان والنويّر والديدحان على تلك الأنغام الجميلة فتغطي روائحها الجميلة كل الأمكنة! عندها توقن الفتاة بأن هجينيتها قد حملها الطير والحيوان وحتى الجماد فتصمت، وعندما تصمت يصيبها الوهن والذبول إذا لم يجمعها القدر بحبيبها كأن تحمل قطاة عابرة رسالتها لحبيبها أو أن تغني “أم سالم” هجينيتها في معشوقها في أحد “الريضان” فيسمعها المعشوق وتكون هي السهم الذي يسقط بين أضلاعه، أو تحمل تلك الرسالة ومضة برق نظرتها الحالمة له!
أحبت تلك الفتاة أحد شباب القبيلة، وأخفت حبها له عن الجميع بل ربما حتى عن المحبوب نفسه! ولأن البدو عامة في فصل الصيف يقطنون على “الجويّة” ومفردها “جوّ” وهي مجموعات الأبار التي يسمونها “القلبان”، أي جمع “قليب” وغالب هذه “الجويّة” التي تقع على حدود النفود والحماد تكون بعيدة عن المدن التي اعتاد أهل البادية في شمال الجزيرة العربية الامتيار منها تكون قريب من ريف البادية في بلاد الهلال الخصيب سواء في العراق أو بلاد الشام. رحلة الامتيار هذه يسمونها البدو “الحدرة” وأفرادها يسمون “الحوادير” وهي الكلمة التي وردت ضمن الأبيات. والحدرة قد تطول وقد تقصر ولكنها في الغالب لا تقل عن الشهرين، ولذلك علمت الفتاة بأنها لن تستطيع صبراً على أن تكون بعيدة عن “هويها” هذه المدة الطويلة. ولذلك حاولت بشتى الوسائل مرافقة القافلة ولكنها جوبهت برفضٍ قاطع من أهلها حتى هدتها الحيلة إلى الاعتذار بألم “الضرس” وأنها بحاجة إلى خلعه في تلك المدينة التي تقع على ريف البادية!
في الكتابة عما “بين البين”:
أن تُحب، يعني أن تنتمي، وأن تنتمي يعني أن تتلاشى فيمن تنتمي له، أن تراه بأنه هو السكن والوطن والكينونة والكيان والسعادة، أن يكون محبوبك هو سرورك ومسرتك وسرك وأسرك وسريرتك! أن تُحب يعني أن تستوطن الآخر ويستوطنك وهذا ما عبرت عنه هذا الشاعرة بهجينيتها البسيطة جداً من ناحية اللغة، العميقة جداً جداً جداً جداً من ناحية المعنى!
تذكر العاشقة في بداية هجينيتها ذلك المانع القوي والقيد المتجذر في نفس الأنثى البدوية، أنه الحياء، الحياء الذي أخرس لسانها وأقفل فمها عن زلزلة “نزل الفريق” بصيحة عظيمة تُشعر الأطفال بالرعب وتُخيف النساء وتجفل الإبل من “مُرحها” و”تِرهم” الخيل في مرابطها من شدة صوت صرختها. تلك الصرخة التي ستزلزل الكون بأجمعه وليس “نزل الفريق” الصغير بما فيه فقط!
ولكن هل هي صيحة واحدة فقط وينتهي الأمر فقط؟ لا! ليس الأمر كذلك يا للأسف! إن الصيحة التي منع الحياء تلك العاشقة المتولهة من إطلاقها تبدأ من خروج معشوقها مع القافلة للامتيار، وتنتهي بعودتها إلى مضارب القبيلة. وهذه الرحلة لا تقل عن شهرين على أقل تقدير وهذا يعتمد على المكان الذي تقطنه القبيلة وقتها ومدى قربه أو بعده عن المدينة المقصودة للامتيار، أنها صيحة عظيمة ممتدة إلى اللا مدى!
لكم أن تستمتعوا بهذه المفردة العظيمة “التبييح”، والتي أتت من “باح” أي كشف السر، ولكن “باح” تنتصب في وسطها “ألف” شامخة تدل على المقاومة والصبر والكفاح بعكس مفردة “التبييح” والتي تخنقها من وسطها يائين حزينتين ومكسورتين. “يائيين”، اعتذر عن جرهما بدلاً من الرفع لأنهما للعاشقة وليس للغة أي شأن بها، كانتا تفضحان كل شيء، الصمت، العشق، البكاء، الندم، اليأس، وحتى الموت المختبئ خلف كل هذه الحشود!
من الواضح أن العاشقة حاربت بكل وسيلة ممكنة في سبيل مرافقة القافلة والاستمرار بقرب معشوقها وليس لها هدفاً سوى أن تكون قريبة منه لا أكثر، وعندما فشلت في مرافقة القافلة أدعت بأن “ضرسها” يؤلمها وأنها بحاجة ماسة لمرافقة القافلة لخلع ذلك الضرس عند الطبيب الموجود في تلك المدينة!
عندما تمعنت في البيت الثاني مرة أخرى، وجدت بأن هذه العاشقة على استعداد تام لخلع ضرسها السليم وتحمل ذلك الألم الشديد الذي يرافقه وخاصة في ذلك الوقت الذي لم توجد فيه المخدرات الموضعية فقط لمجرد البقاء بقرب المعشوق تلك المدة القصيرة، على أن يبقى عشقها له سراً عن الجميع لا يعرفه أحد ولا تريد كذلك أن يعرفه أحد، ذلك البقاء الذي تتمناه قد لا يعني الالتقاء الدائم أو التواصل وإنما قد لا يعدو عن مجرد الشعور بوجود ذلك الحبيب بالقرب، فالقافلة ستكون سائرة من قبل شروق الشمس إلى غروبها والجميع سيكون منهكاً من طول المسير والتعب واللقاء قد لا يعدو كونه ضرباً من ضروب المستحيل!
وجمتُ للحظات وأنا أتساءل بيني وبين نفسي، كيف للحب أن يفعل كل هذا، كيف لهذا العشق أن يجعلك تتلاشى في ذلك الآخر وتذوب فيه إلى درجة ألّا تشعر بمعنى وجودك وكينونتك ومعناك خارج دائرة من تحب؟!
في الكتابة عما بعد:
لا أسوأ من أن تفقد الأمل في الحياة، في الحب، في ماهية المعنى، أن تشعر بأنك تُذبح في كل لحظة من الوريد للوريد! لحظتها ستفقد أتزانك، وقارك، صمتك، خوفك، ستشعر بأنك ميّت وإن كنت على قيد حياة!
هذي الهجينية هي رسالة من ضمن الكثير من الرسائل التي تساقطت في مفازة النسيان! والبدو الرّحل حياتهم سلسلة لا متناهية من المفازات، مفازة النسيان، مفازة الذاكرة، مفازة الحياة، مفازة الحب، مفازة الرحيل، مفازة العطش، مفازة الجوع، مفازة الخوف. ولأن حياة هؤلاء البدو قائمة على الارتحال والارتحال، ولأنهم أيضاً لا يجيدون حفظ الأشياء، أو بمعنى أصح لا يحبون التمسك بالأشياء، بالذاكرة، بالحياة فلا يرون بأن هناك شيئاً يعنيهم سوى اللحظة الراهنة، اللحظة الحالمة، اللحظة التي يعيشونها ويتمنونها! ولذلك كله يسقط منهم الكثير من الأشياء، الكثير من الحياة، الكثير من الذاكرة في تلك المفازات التي يعبرونها أو”تعبرهم”. وهذه الرسالة مما سقط في مفازة النسيان ولم أجد منها إلا أجزاء بسيطة وقد أكلت بقيتها ذئاب النسيان المتوحشة التي وجدتها في مفازتها! ه
ذه الرسالة قُدِّر لها أن تقع بين يدي وأن أحاول بقدر استطاعتي تفكيككها ومحاولة استخراج المخبوء فيها وكل الـ ما لا يُقال! هي رسالة ولكنها ليست كأي رسالة، رسالة سقطت في مفازة النسيان قبل أن تلتقطها تلك الروح الجميلة وتريقها في أذني لأنتشي بها عمراً لا استطيع تقدير مدته!
ولهذا كله، ولأشياء أخرى فأنني أرى بإن هذه الرسالة كانت كصرخة طائر البجع الأخيرة والحزينة التي يطلقها قبل موته، والناس تحسب بأنه يترنم بأغنيته للحب والحياة، أنها تلويحة وداع تأخرت عمراً بأكمله قبل أن تمتد تلك اليد ملوّحة بالفراغ للفراغ! الفراغ هو من يكتب، والفراغ هو من يقرأ وقتها، والفراغ هي الذي يستطيع إنهاء كل شيء، كل شيء!
في الكتابة عما “بعد الـ بعد”:
أنا أظن، لا، أنا لا أظن، بل أجزم، وبما أن من روى القصيدة قد قال بأن هناك أبياتاً أخرى في الهجينية لم يحفظها، بأن البيت الأخير سيكون هكذا:
“ما أنساه والله وعليه أصيح
ما أنساه لو أنتم ذبحتوني”
هل قلت سيكون؟
بل يقيناً هو هكذا، يقيناً هو هكذا!
لقد صبّته تلك العاشقة هذه اللحظة في أذني هذه اللحظة وغادرتني على عجل! وهنا سأستأذنكم لكيلا تسرقوا صوتها من أذني:
تعالي أيتها العاشقة أنقذيني بالشطر الأخير:
ما
أنساه
لو
أنتم
ذبحتوني!
إضاءة متأخرة:
بيتان من شعر الهجيني أُريقت في أذني واستطعمتهما روحي كالشهد بل أحلى! لم يصلني اسم الشاعرة التي قالتهما ولا زمنها الذي عاشت فيه، ولأنني لا أنوي في هذه الكتابة التأريخ للقصيدة وقصتها لمجرد التاريخ فقد افترضت جدلاً بأن الشاعرة قد قالت الأبيات في الفترة ما بين ١٣٠٠هـ إلى١٣٤٠هـ. وعلى هذا الافتراض بنيت كل ما في الكتابة التي بين أيديكم، لا لشيء إلا لأقول لكم مرة أخرى بأن التأريخ للقصيدة بشخصياتها الحقيقية لست معنياً به أبداً!