مرثية أخيرة لموت لن يتكرر!

نص موال عمري للشاعر هلال سلمان الشرفات

قراءة في حياة صاحبي الميت رحمه الله وغفر له وعفا عنه!

عندما يسمع مُدنَف ما متجه لمصيره المحتوم مثل هذا البكاء يسترجع حياته الميتة التي تركها خلفه، ويخاف أن يفكر في الالتفاف للخلف لا أن يلتفت أصلاً منذ البدء! مجرد الالتفات يُعيده للمربع الأول الذي سقط في جُب الغياب!

يحاول الهروب، ولكن هناك شيء ما يشدّه إلى ما يشبه كتابة مرثية أخيرة لموتٍ لن يتكرر!

يستسلم لمصيره فيصب هذا البكاء ذنوبه في إذنه عشرات المرات! يخيفه أن يرى كل ما خلفه يابساً، ذابلاً، وميتاً دون أن يترك أثراً خلفه، حتى لو كان ذلك الأثر حفنة من رماد لا تلبث رياح النسيان أن تحوّله إلى هباء! قد يكون ذلك هروباً مؤقتاً من الموت الذي يشتعل داخله. ولكنه مع ذلك يظن أن مثل هذا البكاء الظاهري أو حتى براكين البكاء التي تنفجر داخله في كل ثانية منذ وهنٍ لا يريد أن يتذكره، مجرد تناسل للموت من موتٍ سبقه، من موتٍ آخر سبقه، وأن هذه العملية المؤلمة هي متوالية عبثية وسرمدية!

يظن أن رؤية الإنسان لنهايته بطريقة واضحة شيء لا بأس فيه، بل أكثر من رائع لأنه يأمن على نفسه من الأحداث المفاجئة التي قد تقتله وهو يركض في مضامير الأمل دون أن يعرف حقيقها من مزيفها! يظن بأن تلك النهاية أكثر رقياً واحتراماً من ترك ذلك الميّت معلقاً على مقاصل الانتظار وموته المتناسل منه في كل لحظة!

وعن القصيدة التي تُرعبه وخاصة تلك التي تكون أحد قوافيها نون مشددة وما قبلها ساكن، مثل هذه القصائد تنزل كمطرٍ أسود لا رحمة فيه ولا نماء، فقط ذلك الماء الملوث الذي يُنبت أزهار الموت، واليأس، والخوف، والفراق! تخيفه القصيدة التي تكون كذلك ولذلك منذ وقت لا يتذكره يهرب من تلك القصائد من البيت الأول! هذه القصيدة نجحت فيما فشلت قصائد أخرى، فقد نجحت في القبض على هذا المُدنف قبل أن يهرب! كان “موال عمري” هو العنوان الذي توشحت به القصيدة كافياً ليكون شبكة صيد محكمة لاصطياد ذاك المُدنف وأكمل شد خيوط الشبكة … “اللايمات الطواري….” البيت الذي زلزله ومن ثم أدخله لغيبوبة لم يفق منها أبداً!

اللايمات الطواري لأدلج الليل جن

              تصببن لين ما جد السهر ملّني!

وعن “اللايمات” يعود ولها ولـ ليلها السرمدي الذي لا يعترف بالسهر ولا يراه، تنهمر كسحابة ليل باردة جداً تنسكب وكأن السماء قربة أنشقت وسال منها الماء بكل تشكلاته فأغرق المكان والعيون التي لازالت غارقة بالماء منذ زمن لا يريد تذكره! الماء، ذلك الماء الذي يفعل به الأفاعيل بصمتٍ لا يُغري أحد بالالتفات إليه. في آخر الليل ينسكب به كل ما يمكن أن يؤذيه، يفتته، يقتله كل لحظة، فكل ذكرى وكل قصة وكل ضحكة وكل وعد يعود له وكأنه سمعه أو قاله هذه اللحظة فيشعر بأن الموت يتناسل داخله لملايين السنين والتي تستنسخ نفسها بمتوالية عبثية أخرى لا يد له ولا حيلة فيها!

وكلما طال الليل رافقه السهر وهو يهزأ به وبصاحبه الذي لا يملك من أمره شيئاً يستطيع فعله. وكلما طال السهر تزيد “اللايمات” بانهمارها غير المحدود بمدى معين، سوى المدى الذي مهمته الوحيدة القتل والقتل فقط! والسهر لا يمكن أن يمل منه، لأنه وفي لحظة “تجلّي” نادرة اعترف ذات انكسار بأنه “كائن مخلوق من سهر”!

غصن الشوارد تفرع، قلت يا كود حن

                 إما تهِدّ الضلوع العوج أو خلني!

وغصن الشوارد دائماً ما يحمل البشارة بالموت، الموت الذي يتباهى فيه وكأنه يحمل لك الفرح بأجمل صورة ممكنة لذلك لا يمكن في يومٍ ما أن يحمل أحد أطرافه أي “حنيّة” ممكنة حتى ولو على سبيل المجاز، تلك البشارة التي قد تعيدك لـ”للحياة” أو تعيد “الحياة” لك! وعندما أدرك الشاعر بوعي أو بدون وعي منه أن هذا الموت متناسل فأراد الحرية لذلك الغصن فأطلق له الخيار بطريقتين:

‏”إما تهِدّ الضلوع العوج أو خلني” ولكن هل ذلك الغصن البائس سيتركه؟ لا يظن ذلك، فالغصن يحمل الموت والموت فقط حسبما يعيش ذلك المدنف! يؤمن بأن لا “بشارة” ستنجيه من مصيره! فيسير بثقة مفرطة وطمأنينة لا متناهية قد يحسده عليها كل من يعرف مصيره!

لا هنت يا جرحي اللي عند مسراي ونّ

               أرقب سهيل اليماني وإن بدا سلّني

وذاك المدنف جرحه لا يفارقه أبداً، فلا يستطيع الانفكاك منه، فهو يخالط أنفاسه وسكناته ولا يستطيع أن ينعتق منه ولو لثوانٍ معدودة. يهادنه، وإن زاد بألمه يُبكيه ذاك البكاء الصامت المرير، البكاء الذي يقتله في كل دمعة وآهة، ذاك البكاء الذي ينفيه عن معناه!

ولا يشغله مراقبة “سهيل” وبينه وبين ظهور سهيل سنين ضوئية أو لا متناهية حسب تقويم ذاك المُدنف، فلا غيث قادم سيغيث قلبه، كما أن سهيل لا قيمة له بدون “الثريا” والتي هجرت “ثراها” المثمر بها فأصبح هشيماً تذروه الرياح أو هكذا يظن!

ترفّق بقهوة الخفاق والنجر دنّ

ما عاد باقي عليك إلا أنك تزلني

 وقهوة الخفاق لا تنضج إلا بعد “حمسها” على جمر الروح، ذلك الجمر الذي يجعلها تُخرج أجمل ما فيها ثم تعود بأسوأ ما فيها، ويتراوح طعمها ما بين ماء الروح والموت الزؤام!

بعد أن تبرد أو هكذا يُخيل له يقوم بتفتيتها بذاك النجر الذي يذهب مع صوته للموت ويعود، يغرق بتفاصيلٍ دقيقة جداً لأشياء كان يتمناها أن تحدث ولم تحدث، يشاهد ذلك الوجه الهلامي وهو “يُفتت” بين ذرات القهوة وهي “تنطحن” بقسوة تحت ضربات يد النجر!

 يتداعى للبكاء وهو يفتقد ذلك التشجيع بـ “جوّد له يا بن كثير” لـ “يدنّ” النجر مرات أخرى فيرى الهُلام يتحول إلى هباء وتبقى صرخاته هائمة في الهواء بعد أن فقدت من يغنيها!

“يدنّ” للمرة الثانية فيفتت “عرب القشران” إلى قشور يشربها النجر فتتحد مع نحاسه اللامع لتعيش بقية عمرها هناك حيث لا “حياة” ولا “موت”!

يكرر فعلته فتنتحر الكثير من الوجوه النائمة في الذاكرة، تلك الوجوه التي بكت الهُلام ومصيره، الذين عاشوا بجانبه لحظة بلحظة. يسكب على ماء الروح ماء الصمت فيختنق هذا بهذا وينشغل الأخير بالقهوة المطحونة ليعطيها ذلك المعنى المزيف للذة أو للحب أو لطعم لا يمكن تمييزه أو حتى تسميته!

“تزِلّ” ذلك الشيء وتحاول أن تشربه فتجده يشربك ومن ثم يقذف بك في الهباء! تقف “آههه” وحيدة تشتكي من غربة المعنى بعد أن هجرتها “الحياة”! هذه اللحظة ينتبه المُدنف بأن القهوة لم تعد تعني له شيئاً ضرورياً لـ”العيش” بعد أن فقد “الحياة”، فكل شيء يتناوله لا لذة فيه ولا طعم،

تحاول أن تستعيدها فتفشل، فتدرك بأن لا معنى يستطيع الوصول، لا معنى يعيد الحياة للحياة فتصمت، تصمت ذاك الصمت الذي يرفض التعريف أو التصنيف، تصمت وسؤال يقتلك بقسوة ويزيد موتك موتاً أكثر قسوة أيضاً: “لماذا فعلت كل ما فعلت وأنت تعرف نتيجة فعلك سلفاً؟”، يتحشرج الكلام بقلبك ولسانك، ولكن!

في آخر الهزيع من الموت تسترجع، “ليت الشوارع تجمع اثنين صدفة” وأنت تمشي في طريقك اليومي العبثي القصي تبحث فيه عن “كيانك” الذي فقدت! تتمنى أن تخطف نظرة واحدة فقط لتلك العيون الجميلة، الساهمة، الساهية، الوجلة، المترقبة، الواسعة، المرهقة، المشتتة، المتعبة، التي استوطنها الأرق والخوف، تلك العيون التي حجبت بإشعاعها والاسرار التي تحملها فضاء المكان والزمان، بل وحتى الوجه الذي تنام داخله وتفاصيله! شيء لا يصدق، والله، ولكن هذا ما حدثني به المُدنف قبل أن يغادرني للمرة الأخيرة دون أن استطيع فعل أي شيء قد يسمح له بأن يبقى على قيد “الأمل” و”الحياة” و”الحب” و”الحلم”!

ههنا يتوقف المُدنف عن الاستماع، بل عن الانصات، وبالتالي عن الكلام، لأنه يرى بأنه غير معني بباقي القصيدة لأنه لم يخلق لها ولم تخلق له، هكذا يرى الأمر ببساطة!

كان آخر ما همس به هو استغرابه من تسمية القصيدة بـ”موال عمري”، قال لي: “هي موال موتي يا صاحبي”، هي أجمل لحن جنائزي أتمنى أن تعزفه عند موتي!

.

.

.

لقد فعلت كل ما طلبته مني يا صاحبي!

هل فعلته كما تتمناه وكما تستحقه؟

لا أدري، سلام الله عليك يا صاحبي وسلام لروحك وأدعوا الله أن ترقد بسلام!

الكاتب: aazizrowiliy

عابراً في مفازة الكلام، أحدو خلف نياق المعنى في التيه! aazizrowiliy@gmail.com

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

%d مدونون معجبون بهذه: